الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والحنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه، ويقال: هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار.والإشارة في قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] إلخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس الا المقدس.وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها وينجس باطنه بنحو الرياء والسمعة والعجب والحقد ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو لج الجمل في سم الخياط، وقال بعض العارفين: من فقد طهارة الإسراء بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب.وفي الآية إشارة إلى منع الاختلاط مع المشركين، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم، ومن هنا قال الجنيد: الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم.وقال بعضهم: من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يومًا مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرًا من الاغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولافتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد.هل معكم منكر حرمنا بسببه؟ فقالوا: لا.ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا الا نعلا لمنكر فقال الجنيد: من هنا أوتينا، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته؟ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} [التوبة: 34] الآية، ولعمري انهم أحقاء بالذم، وقد قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه.ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق لا يكون الا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا.ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به، وخصت هذه الأعضاى لأن الشح مركوز في النفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التيهي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزي من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرًا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين.ولهم في قوله سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] تأويل بعيد يطلب من محله، وقوله سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} إلخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وارشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين.وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين، ومعنى {إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الازل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخرة فلم يفارقه حيًا ولا ميتًا، وقيل: معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف، ولله تعالى در من قال:
ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الله مَعَنَا} وقول موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِي رَبّى} [الشعراء: 62] من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيثقدم نبينا صلى الله عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام، وأتى صلى الله عليه وسلم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب، وأتى عليه الصلاة والسلام بنا في {مَعَنَا} وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام.والضمير في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال: في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك.وقال بعض الأكابر: أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والإشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل: أنزل سكينة صاحبه عليه.{انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا} أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافًا بالأرواح ثقالًا بالقلوب، أو خفافًا بالقلوب وثقالًا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية، أو خفافًا بأنوار المودة وثقالًا بأمانات المعرفة، أو خفافًا بالبسط وثقالًا بالقبض، وقيل: خفافًا بالطاعة وثقالًا عن المخالفة.وقيل غير ذلك {وجاهدوا بأموالكم} بأن تنفقوها للفقراء {وأَنفُسَكُمْ} بأن تجودوا بها لله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدارين {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ذلك والله تعالى الموفق للرشاد. اهـ.
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب: وتستعار الخفّة لقلّة العدد، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط: زَرافات ووُحدانا.وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبّت في الهجوم.وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح، والثقل لضدّ ذلك.وتستعار الخفّة لقلّة العيال، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيرًا، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال.قال النابغة: وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع {خفافًا وثقالًا} حالًا من فاعل {انفروا}، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو)، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال.والمجاهدة: المغالبة للعدوّ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاقٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح، مجاز بعلاقة السببية.وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معًا وجبا عليه، ومن لم يستطع إلاّ واحدًا منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما.وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضورًا بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملًا.والإشارة بـ {ذلكم} إلى الجهاد المستفاد من {وجاهدوا}.وإبهام {خير} لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه.وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلًا للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى اعمال النظر والعلم. اهـ.
|