الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فَهْمُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْحُكَمَاءِ لِلْآيَةِ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) مَا نَصُّهُ:اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَمَفْتَحٍ وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ، وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ، وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [28: 76] يَعْنِي خَزَائِنَهُ، فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَفَاتِيحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْخَزَائِنُ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ، فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْخَزَائِنِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقُرِئَ {مَفَاتِيحُ}. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ: الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [15: 21].وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ. وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عِلْمُهُ بِذَاتِهِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا عِلْمُ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ- لَا جَرَمَ- صَحَّ أَنْ يُقَالَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ، وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ، وَقَوْلُهُ: {وَعِنْدَهَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَاهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللهِ هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَالْحِسُّ وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ وَكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ، إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبَحَّارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ، وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا أَعْظَمُ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُكُمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقِهِ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ أَشَدَّ هَيْبَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَظُلُمَاتِ الْأَرْضِ مَوَاضِعُ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا، فَإِذَا سُمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا، وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنَ اللهِ التَّوْفِيقُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا. وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكَّنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} يُفِيدُ الْحَصْرُ، أَيْ: عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةٌ أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ، وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلِ فِي كُلِّ الْمُمَكَّنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَالْمِفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ، وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ {وَلَا حَبَّةٌ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ} بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ (الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ {وَرَقَةٍ}، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فِيهِ قَوْلَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ، (وَالثَّانِي) قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [57: 22].وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ:أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً تَامَّةً كَامِلَةً لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ.وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى.وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ، فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ، فَتَصِيرُ كِتَابَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا قَالَ- صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْحُكَمَاءِ يُرِيدُ بِهِ إِثْبَاتَ عِلْمِ الْغَيْبِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِقْرَارَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَمَا قَالُوهُ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعِلَّةِ..التَّفْسِيرُ الْمَرْفُوعُ لِـ {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}: هَذَا وَإِنَّ فِي تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ حَدِيثًا صَحِيحًا فِيهِ مَبَاحِثُ دَقِيقَةٌ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [31: 34]» وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وَرَوَاهُ بِلَفْظِ: «مَفَاتِيحُ» فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَيْضًا، وَبِلَفْظِ: «مَفَاتِحُ» فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ، وَبِلَفْظِ: «مِفْتَاحٌ» فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ: «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ قَوْلَ عِيسَى عليه السلام الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [3: 49]» وَقَوْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَتِهِ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [12: 37] وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي فِيمَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [72: 26، 27] وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا نُقِلَ كَثِيرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكَشْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ مِنْ كَسْبِ النَّاسِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ، وَبِمَوْتِ بَعْضِ النَّاسِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ كَانَ الْكَشْفُ لِلرَّسُولِ بِالْأَصَالَةِ وَلَهُ بِالتَّبَعِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَمْزِيَّةِ بِقَوْلِهِ:وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ يُنَافِي هَذَا الرَّأْيَ، وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَقَّقْنَاهُ هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَنْعَامُ فَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنَ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. .سَبَبُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ: وَمِمَّا قَدْ يَسْتَشْكِلُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي حَرَّرْنَاهَا هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ- مَا اكْتَشَفَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْبَيُوضَ الَّتِي يَحْصُلُ الْحَمْلُ بِتَلْقِيحِهَا بِمَاءِ الذَّكَرِ مِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْمَنِ وَمِنْهُ يَتَكَوَّنُ الذُّكُورُ، وَمِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْسَرِ وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ الْإِنَاثُ، وَأَنَّ الْبَيُوضَ تُوجَدُ بِالتَّنَاوُبِ فِي أَثْنَاءِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِخَلْقِ بَيُوضِ الذُّكُورِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا، وَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِضِدِّ ذَلِكَ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ أُنْثَى، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كُتُبًا مِنْهَا (كِتَابُ تَعْلِيلِ النَّوْعِ) مِنْ تَأْلِيفِ الطَّبِيبِ رِمْلِي دُوسُونْ الْإِنْكِلِيزِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الطَّبِيبُ مُحَمَّد عَبْد الْحَمِيدِ الْمِصْرِيُّ. وَمِنْ عَلِمَ أَشْهُرَ وِلَادَةِ امْرَأَةٍ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ نَوْعَ الْجَنِينِ فِي الْحَمْلِ الثَّانِي، وَيَتَسَلْسَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ مُنْتَظِمًا وَالْوَضْعُ فِي مَوْعِدِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ أُنْثَى لِأَسْبَابٍ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ بَيَّنَهَا الْبَاحِثُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ تَعْلِيلِ النَّوْعِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ الَّذِي عُنْوَانُهُ (التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي) مَا تَرْجَمَتُهُ:بَعَدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ تَكْوِينَ الْبَيْضِ يَحْدُثُ بِالتَّنَاوُبِ؛ مَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ أَوِ الذَّكَرِ، وَمَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ أَوِ الْأُنْثَى- تَمَكَّنْتُ مِنَ التَّنَبُّؤِ بِمَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي فِي النِّسَاءِ الْحَوَامِلِ مِنْ مَرْضَايَ وَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لَمْ تَسْبِقْ لِي رُؤْيَتُهُنَّ، وَأَذْكُرُ أَنِّي نَجَحْتُ فِي (97) فِي الْمِائَةِ، وَأَمَّا الْفَشَلُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمِائَةِ فَتَابِعٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْأُمِّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِالدِّقَّةِ عَنِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ. فَمَثَلًا: إِذَا أَخْبَرَتْنِي مَرِيضَةٌ أَنَّهَا سَتَضَعُ فِي يُونْيُو وَتَنَبَّأَتُ أَنَّ طِفْلَهَا أُنْثَى، ثُمَّ هِيَ وَضَعَتْ طِفْلًا ذِكْرًا كَامِلَ الْعِدَّةِ فِي مَايُو (أَيَارَ) أَوْ يُولْيُو (تَمُّوزَ) يَكُونُ النَّبَأُ خَطَأً، وَلَوْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّ الْوِلَادَةَ سَتَحْدُثُ فِي مَايُو أَوْ يُولْيُو لَتَنَبَّأَتُ لَهَا بِأَنَّ الطِّفْلَ ذَكَرًا.
|