الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفصّل بعض العلماء في ذلك فقال: إن تركه لعدم الداعي إليه فهو معذور، وإن تركه مع الداعي إليه، ولكن داعيه إلى الضرر أقوى، فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه، فإن أدّى الواجب عليه منه لم يبق لها حق، ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به.{وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} بعد أن رغّب اللّه في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه ذكر في هذه الآية جواز الفرقة إذا لم يكن منها بد، وسلّى كلا من الزوجين، ووعد كل واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر إذا قصد الفرقة تخوّفا من ترك حقوق اللّه التي أوجبها.{وَكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا}. أي وكان اللّه ولا يزال غنيا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه.قال اللّه تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}.أخرج ابن أبي حاتم أنّ هذه الآية نزلت في جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه.وأخرج الشيخان عن جابر أنه قال دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ عليّ فعقلت فقلت يا رسول اللّه: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث، فنزلت آية الفرائض.وهذه الآية آخر آيات الأحكام نزولا.وروي أنّ أبا بكر رضي اللّه عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها اللّه في سورة النساء في الفرائض [12]، فأولها في الولد والوالد، وثانيها في الزوج والزوجة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء [176] أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. أو من الأب، والآية التي ختم بها سورة الأنفال [75] أنزلها في أولي الأرحام، وقد أجمع العلماء على أنّ هذه الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} إلخ وتقدّم لك بيان ذلك مستوفى.واختلف العلماء في المراد بالولد في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وقوله تعالى: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} فقال بعضهم: إن المراد به الذكر، لأنّه المتبادر، ولأنّه لو أريد به ما يشتمل الذكر والأنثى لكان مقتضى مفهومه أن الأخت لا ترث النصف مع وجود البنت، مع أنها ترثه معها عند جميع العلماء غير ابن عباس، ولكان مقتضاه أيضا أنّ الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، والعلماء متفقون على أنه يرث الباقي بعد فرض البنت وهو النصف.والمختار الذي عليه المحققون أن الولد هنا عامّ في الذكر والأنثى، لأنّ الكلام في الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا، إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر. ولأنّ الولد مشترك معنويّ وقع نكرة في سياق النفي، فيعم الابن والبنت، وما ورد على المفهوم ليس بقادح.أما أولا: فلأن الأخت لا يكون لها فرض النصف مع وجود الولد مطلقا، أما مع الابن فلأنّه يحجبها. وأما مع البنت فلأنها تصيرها عصبة، فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية، فلا حاجة إلى تخصيص الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما.وأما ثانيا: فلأن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها. لأنّ المتبادر من قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} أنه يرث جميع تركتها عند عدم الولد، ومفهومه أنّه عند وجود الولد لا يرث جميع تركتها، أما مع الابن فلأنه يحجبه، وأما مع البنت فلأنه يرث الباقي بعد فرضها، فصحّ أن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، تدبّر ذلك فإنّه دقيق.وبعد فإنّ الآية قدّرت في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة صورا أربعا:الأولى: أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة، فلها النصف بالفرض، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فلها بالرد.وكما ترث الأخت الواحدة من أخيها النصف، كذلك ترثه من أختها، لأنّ مقدار الميراث لا يختلف باختلاف الميت ذكورة وأنوثة، وإنما يختلف باختلاف الوارث.الثانية: أن يكون الأمر بالعكس تموت امرأة ويرثها أخ واحد فله جميع التركة، وكما يرث الأخ الواحد جميع تركة أخته كذلك يرث جميع تركة أخيه.الثالثة: أن يكون الميت أخا أو أختا وورثه أختاه، فلهما الثلثان.الرابعة: أن يكون الميت أخا أو أختا، والورثة عدد من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين.وظاهر الآية في هذه الصورة الرابعة عدم التفرقة بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأب في أنهم يشتركون في التركة إذا اجتمعوا، لكنّ السنّة خصصت هذا العموم، فقدمت الأشقاء على الإخوة لأب، فإذا اجتمع الصنفان حجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب.بقي من الصور المحتملة في الميراث بالأخوة:1- أن يكون للميت الكلالة عدد من الإخوة الذكور، فالحكم أنهم يحوزون جميع التركة، لأنّ الواحد منهم إذا انفرد حاز التركة كلها، فأولى إذا اجتمعوا أن يحوزوها.2- أن يكون للميت الكلالة أكثر من أختين، فالحكم أنهن يأخذن الثلثين بالفرض، لأنّ أكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين، فأولى ألا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين، وقد تقدم ذلك.{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} مفعول يبيّن محذوف، والمصدر المنسبك مفعول لأجله بتقدير مضاف، أي: يبين اللّه لكم الحلال والحرام، وجميع الأحكام كراهة أن تضلوا.ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول (يبيّن) أي يبين اللّه لكم ضلالكم، لتجتنبوه، فإن الشر يعرف ليتقى، والخير يعرف ليؤتى.{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها أحوالكم وما يصلح لكم منها وما لا يصلح.{عَلِيمٌ} ذو علم شامل محيط، فيبيّن لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم. اهـ.
|