الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
في قدوم وفد الأنصار عاماً بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة بعد بيعة، ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمه: ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم. فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ من قومه. (ج/ص: 3 /180) قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجاً - أو معتمراً - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول: ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالشهد ما كان شاهداً * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشَّزر فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني * وخير الموالي من يريشُ ولا يبري قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما الذي معك؟)) قال: مجلة لقمان - يعني: حكمة لقمان -. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعرضها علي))، فعرضها عليه. فقال: ((إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدىً ونور)). فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج. فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث. وقد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا. قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: ((هل لكم في خير مما جئتم له؟)) قال: قالوا: وما ذاك؟ قال: ((أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليَّ الكتاب)). ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. (ج/ص: 3: 181) قال: فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً -: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له. فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. قلت: كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل. وقد روى البخاري في (صحيحه)، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أمامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوماً قدَّمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم. قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((من أنتم؟)) قالوا: نفر من الخزرج. قال: ((أمن موالي يهود؟)) قالوا: نعم ! قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبياً مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم. (ج/ص: 3/182) فلما كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله. قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا. قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار. قال أبو نعيم: وقد قيل: إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج. ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان. وقيل: إن أول من أسلم: رافع بن مالك، ومعاذ بن عفراء والله أعلم. وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار - وهو ابن عفراء - النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي، وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج السلمي. ثم من بني سواد، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضاً، ثم من بني حرام، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضاً، ثم من بني عبيد رضي الله عنهم. وهكذا روي عن الشعبي والزهري وغيرهما: أنهم كانوا ليلتئذٍ ستة نفر من الخزرج. وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري، وعروة بن الزبير: أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان - وهو ابن عبد قيس -، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة. فأسلموا وواعدوه إلى قابل. (ج/ص: 3 /183) فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك: أن ابعث إلينا رجلاً يفقهنا. فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن إسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة. والله أعلم. قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثني عشر رجلاً. وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ - وهما ابنا عفراء -، ورافع بن مالك المتقدم أيضاً، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الزرقي. قال ابن هشام: وهو أنصاري مهاجري. وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوي، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابي المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم، فهؤلاء عشرة من الخزرج. ومن الأوس: اثنان، وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان. قال ابن هشام: التيهان يخفف ويثقل كميت وميت. قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان: اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعون بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. قال: وقيل: إنه أراشي. وقيل: بلوي. وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام. قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات، والمقصود: أن هؤلاء الاثني عشر رجلاً شهدوا الموسم عامئذٍ وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء، وهي: العقبة الأولى. (ج/ص: 3 /184) وروى أبو نعيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة - وهو ابن الصامت - قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً. فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب به نحوه. قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني: أن عبادة بن الصامت حدثه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر. وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه. وقوله: على بيعة النساء - يعني: وفق على ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية - وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة. وليس هذا عجيب فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيناه في سيرته وفي التفسير، وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر. والله أعلم. قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. وقد روى البيهقي، عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مصعباً حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الأولى. قال البيهقي: وسياق ابن إسحاق أتم. وقال ابن إسحاق: فكان عبد الله بن أبي بكر يقول: لا أدري ما العقبة الأولى. (ج/ص: 3 /185) ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة. قالوا كلهم: فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال: فمكث حيناً على ذلك لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله؟ فقلت: يا أبت مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟ فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات. قال: قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً. وقد روى هذا الحديث أبو داود، وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله. وقد روى الدار قطني، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة والله أعلم. قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، يومئذٍ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه. فلما سمعا به، قال سعد لأسيد: لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وإنههما أن يأتيا دارينا فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. (ج/ص: 3 /186) وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه. قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنهما - والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً. وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما سعد فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتماً ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد مَنْ ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. وذكر موسى بن عقبة: أنه قرأ عليه أول الزخرف. قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. (ج/ص: 3/187) قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة. ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الأوس بن حارثة وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت واسمه صيفي. وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث، وقيل: عبيد الله واسم أبيه الأسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس. وكذا نسبه الكلبي أيضاً. وكان شاعراً لهم قائداً يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق. قلت: وأبو قيس بن الأسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعاراً بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن أبي الصلت الثقفي. قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود. فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف. قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي ابن النجار، قال: وهو الذي أنزل فيه وفي عمر قال ابن إسحاق: وكان يحب قريشاً، وكان لهم صهراً. كانت تحته أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وكان يقيم عندهم السنين بامرأته. قال قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشاً فيها عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ج/ص: 3/188) أيا راكباً إما عرضت فبلغن * مغلغلةً عني لؤي بن غالب رسولَ امرئٍ قد راعه ذاتُ بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب وقد كان عندي للهموم معرّس * ولم اقض منها حاجتي ومآربي نُبِيتُكم شرجين، كل قبيلة * لها أزمل من بين مُذْكٍ وحاطب أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودسِّ العقارب وإظهار أخلاقٍ ونجوى سقيمة * كوخز الأشافي وقعها حق صائب فذكرهم بالله أول وهلة * واحلال إحرام الظباء الشوازب وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحِب متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً * هي الغول للأقصين أو للأقارب تقطع أرحاماً وتهلك أمة * وتبري السديف من سنام وغارب وتستبدلوا بالأتحمية بعدها * شليلاً وأصداء ثيابَ المحارب وبالمسك والكافور غُبراً سوابغا * كأن قتيريها عيونُ الجنادب فإياكم والحرب لاتعلقنكم * وحوضاً وخيم الماء مرَّ المشارب تزين للأقوام ثم يرونها * بعاقبةٍ إذ بيّتت أمُّ صاحب تحرق لا تشوي ضعيفاً وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب عظيم رماد النار يحمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب وماء هُريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب يخبركم عنها امرؤ حقَّ عالمٍ * بأيامها والعلمُ علمُ التجارب فبيعوا الحراب ملمُحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب وليُّ امرئ فاختار ديناً فلا يكن * عليكم رقيبٌ غير رب الثواقب (ج/ص: 3/189) أقيموا لنا ديناً حنيفاً فأنتموا * لنا غاية، قد يهتدى بالذوائب وأنتم لهذا الناس نورٌ وعصمة * تؤمون والأحلام غير عوازب وأنتم إذا ما حصَّل الناس جوهرٌ * لكم سرة البطحاء شمُّ الأرانب تصونون أنساباً كراماً عتيقةً * مهذبة الأنسابِ غير أشائب يرى طالبُ الحاجات نحو بيوتكم * عصائبَ هلكى تهتدي بعصائب لقد علم الأقوام أن سُراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب وأفضله رأياً وأعلاه سُنةً * وأقولُه للحقِّ وسط المواكب فقوموا فضلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاءٌ ومصدقٌ * غداةَ أبي يكسوم هادي الكتائب كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رءوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين سافٍ وحاصب فولّوا سراعاً هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلحُبشِ غيرُ عصائب فإن تهلكوا نهلِكْ وتهلكْ مواسمٌ * يعاشُ بها قول امرئٍ غيرِ كاذب وحرب داحس الذي ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة، وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرساً يقال له: داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفاني، أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤبة الغطفاني أيضاً يقال لها: الغبراء، فجاءت داحس سابقاً فأمر حذيفة من ضرب وجهه فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكاً. ثم أن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكاً فقتله، فشبت الحرب بين بني عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر وجماعات آخرون. وقالوا في ذلك أشعاراً كثيرة يطول بسطها وذكرها. قال ابن هشام: وأرسل قيس داحساً والغبراء وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والأول أصح. قال: وأما حرب حاطبفيعني: حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. (ج/ص: 3/190) كان قتل يهودياً جاراً للخزرج، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وهو الذي يقال له: ابن قسحم في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً وكان الظفر للخزرج. وقتل يومئذ الأسود بن الصامت الأوسي، قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضاً. والمقصود: أن أبا قيس بن الأسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الإسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير ولم يبق دار - أي: محلة - من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس، ثبطهم عن الإسلام وهو القائل أيضاً: أربَّ الناسِ أشياءٌ ألمتْ * يلفّ الصعبُ منها بالذلول أرب الناس إما أن ضللنا * فيسرنا لمعروفِ السبيل فلولا ربنا كنا يهوداً * وما دين اليهود بذي شكول ولولا ربنا كنا نصارى * مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خُلقنا إذ خُلقنا * حنيفاً دينُنا عن كل جيل نسوق الهديَ ترسُفُ مذعناتٍ * مكشَّفة المناكبِ في الجلول وحاصل ما يقول: أنه حائر فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه ومعرفته. وكان الذي ثبطه عن الإسلام أولاً عبد الله بن أبيّ بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بُشر به يهود فمنعه عن الإسلام. قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج، وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم، وكذا الواقدي. قال: كان عزم على الإسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلامه عبد الله بن أبي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة. (ج/ص: 3 /191) وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة): أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فسمع يقول: لا إله إلا الله. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار، فقال: ((يا خال ! قل لا إله إلا الله)). فقال: أخال أم عم؟ قال: ((بل خال)). قال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم !)) تفرد به أحمد رحمه الله. وذكر عكرمة وغيره: أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله: وقال ابن إسحاق، وسعيد بن يحيى الأموي في (مغازيه): كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتاً له فاتخذه مسجداً لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب وقال: أعبد إله إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه، وكان شيخاً كبيراً وكان قوّالاً بالحق معظماً لله في جاهليته. يقول في ذلك أشعاراً حساناً وهو الذي يقول: يقول أبو قيس وأصبح عادياً * ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضِكم والبرِّ بالله أول وإن قومُكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب غُرْمٌ فادحُ فارفقوهم * وما حمَّلوكم في الملمات فاحملوا وإن أنتم أمعزتم فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا وقال أبو قيس أيضاً: سبحوا الله شرقَ كل صباح * طلعت شمسُه وكلِّ هلال عالم السر والبيان جميعاً * ليس ما قال ربنا بضلال وله الطير تستزيد وتأوي * في وكور من آمنات الجبال (ج/ص: 3 /192) وله الوحشُ بالفلاةِ تراها * في حقافٍ وفي ظلال الرمال وله هوّدت يهودُ ودانت * كلَّ دينٍ مخافةً من عُضال وله شمس النصارى وقاموا * كلَّ عيدٍ لربهم واحتفال وله الراهبُ الحبيسُ تراه * رهنَ بؤسٍ وكان أنعمَ بال يا بني الأرحام لا تقطعوها * وصِلُوها قصيرةً من طوال واتقوا الله في ضعاف اليتامى * وبما يستحلّ غير الحلال واعلموا أن لليتيم ولياً * عالماً يهتدي بغير سؤال ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والي يا بني التخوم لا تخزلوها * إن جزل التخوم ذو عقّال يا بني الأيام لا تأمنوها * واحذروا مكرهاً ومرَّ الليالي واعلموا أن مرها لنفاد * الخلق ما كان من جديدٍ وبالي واجمعوا أمركم على البر والتقـ * ـوى وتركِ الخنا وأخذِ الحلال قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة أيضاً يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم: ثوى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حجةً * يذكر لو يلقى صديقاً مُواتيا وسيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة. قال ابن إسحاق: ثم أن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله. (ج/ص: 3 /193) فحدثني معبد بن كعب بن مالك: أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعباً حدثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها -. قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأياً والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني: الكعبة - وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه. فقال: إني لمصلٍّ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل. قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة. قال: وقد كنا قد عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة، قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك -فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم ! وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ((هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟)) قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر ؟ قال: ((نعم !)) فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى؟ قال: ((قد كنت على قبلة لو صبرت عليها)) قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معنا إلى الشام، قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا: نحن أعلم به منهم. قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً. (ج/ص: 3 /194) ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً. وقد روى البخاري: حدثني إبراهيم، حدثنا هشام: أن ابن جريج أخبرهم: قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة. قال عبد الله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهم: البراء بن معرور. حدثنا علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهد بي خالاي العقبة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة)) فلا يجد أحداً يؤويه ولا ينصره حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه. فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا. فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)). فقمنا إليه نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبداً. (ج/ص: 3 /195) قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة. وقد رواه الإمام أحمد أيضاً، والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار: وروى غير واحد، عن ابن خثيم ولا نعلمه يروي عن جابر إلا من هذا الوجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان العباس آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخذت وأعطيت)). وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان - هو الثوري -، عن جابر - يعني: الجعفي - عن داود - وهو ابن أبي هند، - عن الشعبي، عن جابر - يعني: ابن عبد الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: ((تؤوني وتمنعوني؟)). قالوا: نعم. قالوا: فما لنا؟ قال: ((الجنة)). ثم قال: لا نعلمه يروي إلا بهذا الإسناد عن جابر. ثم قال ابن إسحاق: عن معبد، عن عبد الله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي: أم منيع. وقد صرح ابن إسحاق - في رواية يونس بن بكير عنه - بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الأحاديث: أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيراً ما تحذف الكسر. وقال عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلاً وامرأة واحدة، قال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم، قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله. قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. (ج/ص: 3/196) قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام. قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)). قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم ! فوالذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر. قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)). قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم)). فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم. والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم. (ج/ص: 3/197) وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج. فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الأوس ثلاثة: وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك ابن الأوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس. ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق. واختاره السهيلي وابن الأثير في (أسد الغابة). ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الإثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال: أبلغ أبياً أنه فال رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نورٌ من هدى الله ساطع فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألَّبْ وجمِّع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهطُ حين تبايعوا أباه البراءُ وابن عمرٍ كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع وسعد أباه الساعدي ومنذر * لأنفك إن حاولت ذلك جادع وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلّمه لا يطمعن ثم طامع وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفارُه من دونه السمُّ ناقع وفاء به، والقوقلي بن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع أبو هيثم أيضاً وفيٌّ بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع وما ابن حضير إن أردت بمْطِمِعٍ * فهل أنت عن أحموقة الغي نازع (ج/ص: 3/198) وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح لما حاولت ملأمر مانع أولاك نجوم لا يغبَّك منهم * عليك بنحسٍ في دجى الليل طالع قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة. قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة. وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك. قال: كان الأنصار ليلة العقبة سبعون رجلاً، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وحدثني شيخ من الأنصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيباً ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة، رواه البيهقي. وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: ((أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يعني: المسلمين -)). قالوا: نعم ! وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم ! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: ((الجنة)). قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه. قال عاصم ابن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم. وزعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر القوم البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده. وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان. قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك. قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم. (ج/ص: 3/199) وقال ابن الأثير في (أسد الغابة): وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك. وقد ثبت في (صحيح البخاري ومسلم)من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك. قال: ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدراً أكثر في الناس منها. وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ((ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عيناً، وإن يعلموا بكم يفضحوكم)). فقال قائلهم - وهو أبو أمامة -: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت. ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. قال: ((أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم)). قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: ((لكم الجنة)). قالوا: فلك ذلك. ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم. وقال أحمد: عن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها. وقال البيهقي: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي، حدثنا زهير، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه. قال: قدَّمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة. فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها، وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه. وقد روى يونس عن ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت. قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. (ج/ص: 3/200) قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك. قال: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب)). قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب. ((أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لا تفرغن لك)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ارفضوا إلى رحالكم)). قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)). قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء وما عملناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض. قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان، قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليَّ. قال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فأردد إليه نعليه. قال: قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا عليَّ مثل هذا وما علمته كان. قال: فانصرفوا عنه. قال: ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بإذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيباً. (ج/ص: 3/201) فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته - وكان ذا شعر كثير -. قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شعشاع، حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا. فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن معهم. قال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ؟ قال: قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي. وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس: فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلاً من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوار. قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاء فخلصا سعداً من أيديهم، فانطلق. وكان الذي لكم سعداً سهيل بن عمرو. قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام. وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلاً يقول في الليل على أبي قبيس: فإن يُسلِمِ السعدان يصبح محمدٌ * بمكة لا يخشى خلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم؟ فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلاً يقول: أيا يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف فإن ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى * جنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. (ج/ص: 3/202)
|