الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قال ابن إسحاق: فلما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها. وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم: عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، كان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنماً من خشب في داره يقال له: مناة كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلهاً يعظمه ويظهره. فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه. فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوماً، فغسله وطهره وطيبه. ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلَّمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله، وحسن إسلامه. فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول: والله لو كنت إلهاً لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن أُفٍّ لملقاك إلهاً مستدِن * الآن فتَّشناك عن سوء الغبن الحمدُ لله العليّ ذي المنن * الواهب الرزاق ديَّان الدِّين هو الذي أنقذني من قبل أن * أكونَ في ظلمة قبرٍ مرتهَن (ج/ص: 3/203) فمن الأوس أحد عشر رجلاً: أسيد بن حضير أحد النقباء لم يشهد بدراً، وأبو الهيثم بن التيهان بدري أيضاً، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن دينار بدري، ونهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيداً. ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيداً أميراً على الرماة. ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس شهد بدراً وما بعدها وقتل باليمامة شهيداً، وعويم بن ساعدة شهد بدراً وما بعدها. ومن الخزرج: اثنان وستون رجلاً: أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدراً وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيداً، ومعاذ بن الحارث وأخواه عوف ومعوذ - وهم بنو عفراء - بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدراً وما بعدها وقتل باليمامة. وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر. وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري. وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميراً على الساقة يوم بدر. وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدراً وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدراً وقتل يوم أحد، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدراً وأحد والخندق، وقتل يوم مؤتة أميراً. وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أُري النداء للصلاة وهو بدري. وخلاد بن سويد بدري أحدي خندقي. (ج/ص: 3 /204) وقتل يوم بني قريظة شهيداً، طرحت عليه رحى فشدخته فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن له لأجر شهيدين)). وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري، قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سناً ولم يشهد بدراً، وزياد بن لبيد بدري، وفروة بن عمرو بن وذفة وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء. وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن رزيق، وهو الذي يقال له: مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد. وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن رزيق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضاً. والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأوصى له بثلث ماله فردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته. وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدراً وأحداً والخندق ومات بخيبر شهيداً من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه. وسنان بن صيفي بن صخر بدري، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري. ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضاً. وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن سواد بن عباد، وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي. (ج/ص: 3 /205) وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله. ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيداً بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلى. ومعاذ بن جبل شهد بدراً وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدراً وما بعدها. والعباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له: مهاجري أنصاري أيضاً وقتل يوم أحد شهيداً، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بني غصينة من بلى، وعمرو بن الحارث بن كندة، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري. وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له: مهاجري أنصاري أيضاً. وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي وقتل يوم بئر معونة أميراً وهو الذي يقال له: أعتق ليموت. وأما المرأتان: فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية. قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها خبيب وعبد الله، وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع. فجعل يقطعه عضواً عضواً حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسملين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحاً من بين طعنة وضربة رضي الله عنها. (ج/ص: 3/206) والأخرى: أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن سنان بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها. قال الزهري: عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: ((قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين)). فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. رواه البخاري وقال أبو موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)). وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أُخر بطوله. ورواه مسلم كلاهما: عن أبي كريب، زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين)). قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة فأمر أصحابه بالهجرة إليها. (ج/ص: 3 /207) هذا حديث غريب جداً، وقد رواه الترمذي في (المناقب) من (جامعه) منفرداً به عن أبي عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين)). ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار. قلت: وغيلان بن عبد الله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال: روى عنه أبي زرعة حديثاً منكراً في الهجرة والله أعلم. قال ابن إسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله: فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له، ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار. وقال: ((إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها))، فخرجوا إليها أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة. فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش: من بني مخزوم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخواناً فعزم إليها. قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا؟ هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي. (ج/ص: 3 /208) قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي - سنة أو قريباً منها - حتى مرَّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها. قالت: فقالوا لي: إلحقي بزوجك إن شئت. قالت: فردَّ بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك أحد؟ قلت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا. فقال: والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة. أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معاً، وقتل يوم أحد أبوه وأخوته: الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة. ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الإسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عمار بن ربيعة حليف بني عدي، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبي أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق، وقيل: ثمامة. قال السهيلي: والأول أصح. وكان أبو أحمد رجلاً ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعراً وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم. فغلقت دار بني جحش هجرة، فمرَّ بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال: (ج/ص: 3 /209) وكل دار وإن طالت سلامتها * يوماً ستدركها النكباء والحوب قال ابن هشام: وهذا البيت لأبي داود الأيادي في قصيدة له قال السهيلي: واسم أبي داود حنظلة بن شرقي وقيل: حارثة ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها. فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من فل بن فل، ثم قال: - يعني للعباس - هذا من عمل ابن أخيك هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا. قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة، وعامر بن ربيعة، وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر، ثم قدم المهاجرون أرسالاً، قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم: عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم. والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبد الله بن جحش. ومن نسائهم: زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجدامة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم. قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة: ولما رأتني أم أحمد غادياً * بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول: فإما كنت لا بد فاعلاً * فيمم بنا البلدان ولننأ يثرب فقلت لها ما يثرب بمظنة * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهي والرسول ومن يقم * إلى الله يوماً وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكي بدمع وتندب ترى أن وتراً نائياً عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب دعوت بني غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب (ج/ص: 3 /210) أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحاباً لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا كفوجين إما منهما فموفق * على الحق مهدي وفوج معذب طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا نمتُّ بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم * وأية صهر بعد صهري يرقب ستعلم يوماً أيَّنا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة. فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؛ التناضب من إضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها. فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال: فقال: أبرّ قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه. قال: قلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك. قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا بن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى. (ج/ص: 3/211). فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطاً، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة. وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنزل الله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53-55]. قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص. قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال: فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وذكر ابن هشام: أن الذي قدم بهشام بن العاص، وعياش ابن أبي ربيعة إلى المدينة، الوليد بن الوليد المغيرة سرقهما من مكة وقدم فيها يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر فدميت أصبعه فقال: هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء. قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال. وحدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب. قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت ورواه مسلم في (صحيحه) من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب بنحوه وفيه التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصواب ما تقدم. (ج/ص: 3/212). قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو، وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي - زوج ابنته حفصة -، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل، وبنو البكير إياس، وخالد، وعاقل، وعامر وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زنير في بني عمرو بن عوف بقباء. قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم: فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خُبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح. ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة. قال ابن هشام: وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صُهيباً حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم ! قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ربح صهيب، ربح صهيب)). وقد قال البيهقي: حدثنا الحافظ أبو عبد الله - إملاء - أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الأهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثني أبي وعمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب)). قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد. فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكياً -فناموا. فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت بريداً ليردوني فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي، ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين. (ج/ص: 3/213). وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: ((يا أبا يحيى ربح البيع، ثلاثاً)). فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام. قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن الحصين، وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة، وأبو كبشة مولياً رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء. وقيل: على سعد بن خيثمة. وقيل: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة والله أعلم. قال: ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع. ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بني جحجبى، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة. قال ابن إسحاق: وقال الأموي: على خبيب بن إساف أخي بني حارثة، ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الأشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار. قال ابن إسحاق: ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزباً والله أعلم في أي ذلك كان. وقال يعقوب بن سفيان: حدثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآناً. (ج/ص: 3/214). قال الله تعالى: أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء و أن يجعل له مما هو فيه فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الأنصار والأحباب، فصارت له داراً وقراراً، وأهلها له أنصاراً. قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة: عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأُمر بالهجرة وأُنزل عليه: وقال قتادة: أدخلني مدخل صدق: المدينة، وأخرجني مخرج صدق: الهجرة من مكة، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً: كتاب الله وفرائضه وحدوده. قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له: ((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً)) فيطمع أبو بكر أن يكون. فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعة. (ج/ص: 3/215). فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها - يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه. قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس، وغيره مما لا أتهم عن عبد الله بن عباس. قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم بن عدي، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فاجمعوا فيه رأياً، قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: - قيل إنه أبو البختري بن هشام - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي. فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. (ج/ص: 3/216). قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً. فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: ((نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام. وهذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعلي وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي. قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال - وهم على بابه -: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم))، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمداً. فقال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته! أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا. قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى: وذلك أول التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين. قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، ثنا روح، ثنا هشام، ثنا عكرمة عن ابن عباس. قال: بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. (ج/ص: 3/218). وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين. قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: ((لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحباً)). وقد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين حبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك. قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم. قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث ! قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرج عني من عندك)). قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال: ((إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة)). قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي. ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط، قال ابن هشام: ويقال عبد الله بن أريقط، رجلاً من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس. (ج/ص: 3/219). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته. وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق. قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله يريد المدينة قال: ((الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذلِّلني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تحل عليَّ غضبك، وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العقبى عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك)). قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار. فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا. فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه. وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر علياً أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق، وهذا غريب جداً وخلاف المشهور من أنهما خرجا معاً. قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك ياابنة أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي. قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا. (ج/ص: 3/220). قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء. قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف درهم - فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره -. فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟ قالت: قلت: كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت: وأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبة ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه. فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك. وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري. قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهذا فيه انقطاع من طرفيه. وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك. حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك. قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفاً أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إسحاق، أنا موسى بن الحسن، ثنا عباد، ثنا عفان بن مسلم، ثنا السري بن يحيى، ثنا محمد بن سيرين. قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر. فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟)). فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك. فقال: ((يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني ؟)). قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك. (ج/ص: 3/221). فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة. فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة. فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله. وفيه: أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحرة كلها. وبقي منها جحر واحد، فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وفي هذا السياق غرابة ونكارة. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو. قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا أسود بن عامر شاذان، ثنا إسرائيل، عن الأسود، عن جندب بن عبد الله. قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال: إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا علياً ردَّ الله عليهم مكرهم. فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لاأدري. فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما وري في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 3/222). وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر: حدثنا بشار الخفاف، ثنا جعفر وسليمان، ثنا أبو عمران الجوني، حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري. قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار. وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي وأبو بكر يرتقب. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قومك يطلبونك، أما الله ما على نفسي أئل ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا)). وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد، وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار. وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى. وروى هذا الرجل - أعني أبو بكر أحمد بن علي القاضي - عن عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مطر، عن أبيه، عن أبي هريرة أن أبا بكر. قال لابنه: يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرةً وعشياً. وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضاً. وقد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول: فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا عمرو بن علي، ثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي - ويلقب بعوين - حدثني أبو مصعب المكي. قال: أدركت زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل: - وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله. فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة. (ج/ص: 3/223). حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعاً، فإذا الحمامتان، فرجع. فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد. فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما - أي: برك عليهما - وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى. وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره عن عون بن عمرو - وهو الملقب بعوين - بإسناده مثله. وفيه: أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين، وفي هذا الحديث: أن القائف الذي اقتفى لهم الأثر: سراقة بن مالك المدلجي. وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الأثر كرز بن علقمة. قلت: ويحتمل أن يكونا جميعاً، اقتفيا الأثر والله أعلم. وقد قال الله تعالى: يقول تعالى مؤنباً لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: {إلا تنصروه} أنتم فإن الله ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره وذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما - أو أحدهما - مائة من الإبل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم. وكان الذي يقتص الأثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظاً من الله لهما. كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا همام أن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أبا بكر حدثه. قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟ فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)). وأخرجه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث همام به. (ج/ص: 3/224). وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو جاءنا من ههنا لذهبنا من هنا)). فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه. وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئاً من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به، والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، ثنا خلف بن تميم، ثنا موسى بن مطير القرشي، عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية. ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم. قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه. وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعراً. فمنه قوله: قال النبي - ولم أجزع - يوقرني * ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جداً، وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم. وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير. قال: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج - يعني: الذي بايع فيه الأنصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحبسوه أو يخرجوه. فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: فأمر علياً فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما. وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) وأن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلاً. وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضاً. وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل. قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من ردِّه لأبي بكر إلى مكة وجواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله. (ج/ص: 3/225). قالت: والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما الحرتان)). فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجراً قبل المدينة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي)). فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - أربعة أشهر، وذكر بعضهم: أنه علفهما ستة أشهر. قال ابن شهاب، قال عروة، قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخرج من عندك)). فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإنه قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم !)). قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بالثمن)). قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. (ج/ص: 3/226). ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد ابن عدي هادياً خريتاً - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال. وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل. قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم. يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس. فقال: يا سراقة إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجة الأرض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا. فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الأزلام فخرج الذي أكره. (ج/ص: 3/227). فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع. فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: اخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالأزلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالأزلام ويخرج الذي يكره لا يضره، حتى ناداهم بالأمان. وسأل أن يكتب له كتاباً يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب لي كتاباً في عظم - أو رقعة أو خرقة - وذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف، فقال له: ((يوم وفاء وبر، أدنه))، فدنوت منه وأسلمت. قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد. ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا ردَّه وقال: كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة، جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه. فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سبباً لإسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل - لعنه الله - إليهم: بني مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغوٍ لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عزٍ وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهداً * لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجيب ولم تشكك بأن محمداً * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (ج/ص: 3/228). عليك فكف القوم عنه فإنني * أخال لنا يوماً ستبدو معالمه بأمر تودَّ النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طراً مسالمه وذكر هذا الشعر: الأموي في (مغازيه) بسنده عن أبي إسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتاً تتضمن كفراً بليغاً. وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام إلى مكة، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم. فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه. فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين. وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. (ج/ص: 3/229). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل)). ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبرّ ربَّنا وأطهر ويقول: لاهمِّ إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات. هذا لفظ البخري وقد تفرد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أخر وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتباً أولاً فأولاً. قال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد، أبو سعيد العنقزي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب. قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فيلحمله إلى منزلي. فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه ؟ فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلاً نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع. (ج/ص: 3/230). ثم خرجت أنظر هل أرى أحداً من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم ! قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم ! فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ. فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت. ثم قلت: هل آن الرحيل؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له. فقلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال: ( قلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا؟ وبكيت. قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم اكفناه بما شئت)) فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حاجة لي فيها)). ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا ليلاً المدينة وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الأناجير واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد. قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك)) فلما أصبح، غدا حيث أمر. قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكباً. فقلنا: ما فعل رسول الله؟ قال: هو على أثري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه. قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سوراً من المفصل. أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا إلخ. (ج/ص: 3/231). فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به. وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم. فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاماً، ثم علقتها به، فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك. قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أركب بعيراً ليس لي)). قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. قال: ((لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به)). قال: كذا وكذا. قال: ((أخذتها بذلك)). قال: هي لك يا رسول الله. وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ: القصواء، قال: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم. وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهي الجدعاء. وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها: الجدعاء والله أعلم. قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق فحدثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم: أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم. قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروَّحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة. قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أرقد، كذا يقول ابن إسحاق والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي وكان إذ ذاك مشركاً. (ج/ص: 3/232). قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار، ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف. ثم استبطن بهما مدلجة مجاج، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة. ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم يقال له: أوس بن حجر على جمل يقال له: ابن الرِّداء إلى المدينة وبعث معه غلاماً يقال له: مسعود بن هنيدة، خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة - ويقال: ثنية الغائر فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن ريم. ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل. وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحواً من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله أعلم. قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي، حدثني أخي موسى ابن عبادة، حدثني عبد الله بن سيار، حدثني إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي عن أبيه. (ج/ص: 3/233). قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بابل لنا بالجحفة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لمن هذه الإبل؟)). فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر. فقال: ((سلمت إن شاء الله، فقال: ما اسمك؟)). قال: مسعود، فالتفت إلى أبي بكر. فقال: ((سعدت إن شاء الله)). قال: فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له: ابن الرداء. قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين. والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوماً، لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة، قال ابن هشام. وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم. وقال الأموي: هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو، ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً. وهذه فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: ((اشربي يا أم معبد)). فقالت: اشرب فأنت أحق به، فرده عليها فشربت ثم، دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامراً، ثم تروح. وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه. فقالوا: أرأيت محمداً من حليته كذا وكذا؟ فوصفوه لها. فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل. قالت قريش: فذاك الذي نريد. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي عن أبيه عن جابر. (ج/ص: 3 /234). (يتبع...) (تابع... 1): وذلك أول التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية... ... قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء. فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد أني أرى وجوهاً حساناً، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني، فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أردد الشفرة وهات لنا فرقاً)) يعني: القدح. فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد. قال: ((هات لنا فرقاً)) فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملأ القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد. ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد. وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحداً حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان معروفاً في النسب. وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله! إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز لها يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا. فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((انطلق بالشفرة وجئني بالقدح)). قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن. قال: ((انطلق)). فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح. ثم قال: ((انطلق به إلى أمك)). فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: ((انطلق بهذه وجئني بأخرى)). ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم، فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك. وكثرت غنمها حتى جلبت جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك. فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا. قال: هو نبي الله. قالت: فأدخلني عليه. قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها - زاد ابن عبدان في روايته - قالت: فدلني عليه. فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب. قال: فكساها وأعطاها. قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، إسناد حسن. وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم. (ج/ص: 3/235). وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي. قالا ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن مكرم، حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، ثنا أبجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيء من ذلك. وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد ؟)). فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: ((فهل بها من لبن)). قالت: هي أجهد من ذلك. قال: ((تأذنين لي أن أحلبها ؟)). قالت: إن كان بها حلب فاحلبها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله، ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها تجا حتى ملأه فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللاً بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: ((ساقي القوم آخرهم)). ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا، قال: فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلى لا نِقَي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟ (ج/ص: 3/236). فقالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجل ملوك كان من حديثه كيت وكيت. فقال: صفيه لي فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب. فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل. أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة. إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب. ربعة لا تنساه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قداً له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد، فقال: - يعني: بعلها - هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد (ج/ص: 3/237). فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجُارى وسؤدد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مربد فغادره رهناً لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد قال: وأصبح الناس - يعني: بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأجابه حسان بن ثابت: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر من يسري إليهم ويغتدي ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمىً وهداة يهتدون بمهتد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد ويهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد قال: - يعني: عبد الملك بن وهب - فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 3 /238) ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي، عن أبيه محرز بن مهدي، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة منها مهاجراً هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة وذكر مثل ما تقدم سواء. قال: وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، ثنا محمد بن يونس بن موسى - يعني: الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب، ثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، حدثني أبي، عن أبيه سليط البدري. قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها: ((يا أم معبد هل عندك من لبن ؟)) قالت: لا والله إن الغنم لعازبة. قال: ((فما هذه الشاة؟)) قالت: خلفها الجهد عن الغنم. ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم. ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد، ثنا عبد الله بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان. قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنماً فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقاً حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها من لبن، فقال: ((ادع بها)) فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم جلس فشرب. فقال الراعي: بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك قط. قال: ((أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟)) قال: نعم ! قال: ((فإني محمد رسول الله)). فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: ((إنهم ليقولون ذلك؟)). قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك. قال: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا)). ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفي، عن عبد الله بن إياد بن لقيط به. وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود. (ج/ص: 3 /239) قال: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال: ((يا غلام عندك لبن تسقينا؟)) فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. فقالا: ((هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟)) قلت: نعم ! فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها. ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: ((أقلص أقلص)). فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك غلام معلم)) فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد. فقوله في هذا السياق: وقد فرَّا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة. فإن ابن مسعود ممن أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري - حدثني أبي، عن فائد مولى عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق ركوبه - فقال إبراهيم: أخبرني ما حدَّثك أبوك؟ قال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو بكر - وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا الغائر من ركوبه وبه لصان من أسلم يقال لهما: المهانان. فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذ بنا عليهما)) قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان. فقال: ((بل أنتما المكرمان)) وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين أبو أمامة أسعد بن زرارة ؟)) فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك؟ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفتَ رسول الله إلى أبي بكر فقال: ((يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج)) انفرد به أحمد. (ج/ص: 3 /240)
|