الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
يقال: فيها قدم وفد المدينة النبوية على يزيد بن معاوية، فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنية. (ج/ص: 8/235) ثم عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه وولوا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، فبعث إليهم يزيد جنداً في السنة الآتية إلى المدينة فكانت وقعة الحرة على ما سنبينه في التي بعدها إن شاء الله تعالى. وقد كان يزيد عزل عن الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، وولى عليهم الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما دخل المدينة احتاط على الأموال والحواصل والأملاك، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد فحبسهم، - وكانوا نحو ثلاثمائة عبد - فتجهز عمرو بن سعيد إلى يزيد وبعث إلى عبيده أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به، وأعد لهم إبلاً يركبونها، ففعلوا ذلك. فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد فأكرمه واحترمه ورحب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم أنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير. فقال له: يا أمير المؤمنين الشاهد يرى مالاً يرى الغائب، وإن جل أهل مكة والحجاز ما لأوه علينا وأحبوه ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويحترس مني، وكنت أرفق به كثيراً وأداريه لأستمكن منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة. وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالاً لا يدعون أحداً يدخلها حتى يكتبوا اسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد هو وما جاء له، وماذا يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن عرف أنه يريده رددته صاغراً، إلا خليت سبيله. وقد وليت الوليد وسيأتيك من عمله وأمره ما لعلك تعرف به فضل مسارعتي واجتهادي في أمرك ومناصحتي لك إن شاء الله، والله يصنع لك ويكبت عدوك. فقال له يزيد: أنت أصدق ممن رماك وحملني عليك، وأنت ممن أثق به وأرجو معونته وأدخره لذات الصدع، وكفاية المهم وكشف نوازل الأمور العظام، في كلام طويل. وأما الوليد بن عتبة: فإنه أقام بالحجاز وقد همَّ مراراً أن يبطش بعبد الله بن الزبير فيجده متحذراً ممتنعاً قد أعد للأمور أقرانها. وثار باليمامة رجل آخر يقال له: نجدة بن عامر الحنفي حين قتل الحسين، وخالف يزيد بن معاوية، ولم يخالف ابن الزبير بل بقي على حدة، له أصحاب يتبعونه، فإذا كان ليلة عرفة دفع الوليد بن عتبة بالجمهور وتخلف عنه ابن الزبير وأصحاب نجدة، ثم يدفع كل فريق وحدهم. ثم كتب نجدة إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلاً أخرق لا يتجه لأمر رشد، ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت إلينا رجلاً سهل الخلق لين الكنف، رجوت أن يسهل به من الأمور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله تعالى. قالوا: فعزل يزيد الوليد وولى عثمان محمد بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز وإذا هو فتى غرٌ حدثٌ غمر لم يمارس الأمور، فطمعوا فيه، ولما دخل المدينة بعث إلى يزيد منها وفداً فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وعظم جوائزهم. (ج/ص: 8/236) ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، إلا المنذر بن الزبير فإنه سار إلى صاحبه عبيد الله بن زياد بالبصرة، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد، ولما رجع وفد المدينة إليها أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر وتعزف عنده القينات بالمعازف، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. فتابعهم الناس على خلعه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على الموت، وأنكر عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورجع المنذر بن الزبير من البصرة إلى المدينة فوافق أولئك على خلع يزيد، وأخبرهم عنه أنه يشرب الخمر ويسكر حتى ترك الصلاة، وعابه أكثر مما عابه أولئك. فلما بلغ ذلك يزيد قال: اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت، فأدركه وانتقم منه. ثم أن يزيداً بعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ويحذرهم غب ذلك ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد وخوفهم الفتنة. وقال لهم: إن الفتنة وخيمة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا؟ فقال له النعمان: أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين - يعني: الأنصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم. فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء. قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة كذا قال وفيه نظر، فإنه إن كان في وفد أهل المدينة وقد رجعوا من عند يزيد فإنما وفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد فما قدم وفد المدينة إلى يزيد إلا في أول سنة ثلاث وستين وهو أشبه والله أعلم. كان إسلامه حين اجتاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر إلى المدينة عند كراع الغميم، فلما كان هناك تلقاه بريدة في ثمانين نفساً من أهله فأسلموا، وصلى بهم صلاة العشاء وعلمه ليلتئذٍ صدراً من سورة مريم. ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أُحد فشهد معه المشاهد كلها وأقام بالمدينة، فلما فتحت البصرة نزلها واختط بها داراً، ثم خرج إلى غزو خراسان فمات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية. ذكر موته غير واحد في هذه السنة. (ج/ص: 8/236) أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد أصحاب ابن مسعود قال له عبد الله بن مسعود: ما رأيتك قط إلا ذكرت المخبتين، ولو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. وكان ابن مسعود يجله كثيراً. وقال الشعبي: كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود. وقال ابن معين: لا يسأل عن مثله، وله مناقب كثيرة جداً، أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة. كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم وكان يشبه بابن مسعود، وقد روى علقمة عن جماعة من الصحابة وعنه خلق من التابعين. بعثه معاوية إلى إفريقية في عشرة آلاف فافتتحها، واختط القيروان، وكان موضعها غيضة لا ترام من السباع، والحيات، والحشرات، فدعا الله تعالى فجعلن يخرجن منها بأولادهن من الأوكار والحجار، فبناها ولم يزل بها حتى هذه السنة، غزا أقواماً من البربر والروم فقتل شهيداً رضي الله عنه. صحابي جليل استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على نجران وعمره سبع عشرة سنة وأقام بها مدة، وأدرك أيام يزيد بن معاوية. الزرقي ولد عام الهجرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وولي الجند بها لمعاوية ويزيد، ومات في ذي القعدة من هذه السنة. صحابي جليل شهد بدراً وأُحداً والخندق مع المشركين، وكانت له في المسلمين نكاية، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتح مكة وحنيناً، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وشهد حجة الوداع، وعَمَّر ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام قاله الواقدي. قال: وأدرك أيام يزيد بن معاوية، وقال ابن الجوزي: مات في هذه السنة. (ج/ص: 8/238) وفيها: توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي التي كانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدون في السبت أو في الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففيها كانت وقعة الحرة: وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر. فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه. ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة. فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر. وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ويوري الصيلم بيني وبينه، وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت. وقال: إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر، وكذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب. وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وناظرهم وجادلهم في يزيد ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر وتركه بعض الصلوات كما سيأتي مبسوطاً في ترجمة يزيد قريباً إن شاء الله. وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة، والجوع والعطش، وأنه لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه وإلا استؤصلوا عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد. فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالساً على سريره ورجلاه في ماء يتبرد به مما به من النقرس في رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك وقال: ويلك ! ما فيهم ألف رجل؟ قال: بلى. قال: فهل لا قاتلوا ساعة من نهار؟ ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم فأبى عليه ذلك، وقال: إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتول ذلك من هو أبعد منهم مني. (ج/ص 8/ 239) قال: فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المزني وهو شيخ كبير ضعيف فانتدب لذلك وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس. وقيل: اثنا عشر ألفاً وخمسة عشر ألف رجل، وأعطى كل واحد منهم مائة دينار. وقيل: أربعة دنانير، ثم استعرضهم وهو على فرس له. قال المدائني: وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيش بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة. فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين ولني عليهم أكفك - وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة - فقال يزيد: لا ! ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لأقتلنهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة. فقال النعمان: يا أمير المؤمنين أنشدك الله في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل منهم؟ قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم. وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثاً فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه. وأمر مسلم إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن نمير. وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني. وقد كان يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد أن يسير إلى الزبير فيحاصره بمكة، فأبى عليه وقال: والله لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت الحرام؟ وقد كانت أمه مرجانة قالت له حين قتل الحسين: ويحك ماذا صنعت وماذا ركبت؟ وعنفته تعنيفاً شديداً. قالوا: وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته: يزيد القرود، شارب الخمور، تارك الصلوات، منعكف على القينات. فلما جهز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق جعل يقول: أبلغ أبا بكرٍ إذا الجيش سرى * وأشرف الجيش على وادي القرى أجمع سكران من القوم ترى * يا عجبا من ملحد في أم القرى مخادعٌ للدين يقضي بالفرى وفي رواية: (ج/ص: 8/240) أبلغ أبا بكرٍ إذا الأمر انبرى * ونزل الجيش على وادي القرى عشرون ألفاً بين كهلٍ وفتى * أجمع سكران من القوم ترى قالوا: وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية. وقالوا لهم: والله لنقتلنكم عن آخركم أو تعطونا موثقاً أن لا تدلوا علينا أحداً من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك. فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية فجعل مسلم يسألهم عن الأخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك. جاءه عبد الملك بن مروان فقال له: إن كنت تريد النصر فأنزل شرقي المدينة في الحرة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، فإن الله ناصرك عليهم إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة. فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقي المدينة في الحرة، ودعا أهلها ثلاثة أيام، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة. فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع - وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين -. قال لهم: يا أهل المدينة مضت الثلاث وإن أمير المؤمنين قال لي: إنكم أصله وعشيرته، وأنه يكره إراقة دمائكم، وأنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثاً فقد مضت، فماذا أنتم صانعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب. فقال: لا تفعلوا بل سالموا ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد - يعني: ابن الزبير -. فقالوا: يا عدو الله، لو أردت ذلك لما مكناك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون في بيت الله الحرام، ثم تهيأوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقاً بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع على كل ربع أمير، وجعلوا أجمل الأرباع الربع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل المدينة إليها. وقد قتل من الفريقين خلق من السادات والأعيان، منهم: عبد الله بن مطيع، وبنون له سبعة بين يديه، وعبد الله بن حنظلة الغسيل، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم، وقد مر به مروان وهو مجندل فقال: رحمك الله، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود. (ج/ص: 8/241) ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف: مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيراً، وقتل خيراً خلقاً من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرُّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد. فكان ممن قتل بين يديه صبراً معقل بن سنان، وقد كان صديقه قبل ذلك، ولكن أسمعه في يزيد كلاماً غليظاً، فنقم عليه بسببه، واستدعى بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ليأخذ له بهما عنده أماناً، ولم يشعر أن يزيد أوصاه به. فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب - وقد كان مسلم بن عقبة حمل معه من الشام ثلجاً إلى المدينة فكان يشاب له بشرابه - فلما جيء بالشراب شرب مروان قليلاً ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أماناً، وكان مروان مواداً لعلي بن الحسين. فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده قال له: لا تشرب من شرابنا. ثم قال له: إنما جئت مع هذين لتأمن بهما؟ فارتعدت يد علي بن الحسين وجعل لا يضع الإناء من يده ولا يشربه. ثم قال له: لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له: إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها. فقال: هذه الذي في كفي أريد، فشرب. ثم قال له مسلم بن عقبة: قم إلى ههنا فاجلس، فأجلسه معه على السرير، وقال له: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك. ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا. فقال: إي والله. فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله عليها حتى ردّه إلى منزله مكرماً. ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان - ولم يكن خرج مع بني أمية - فقال له: إنك إن ظهر أهل المدينة قلت: أنا معكم، وإن ظهر أهل الشام، قلت: أنا ابن أمير المؤمنين، ثم أمر به فنتفت لحيته بين يديه - وكان ذا لحية كبيرة -. قال المدائني: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال. فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له: أنا بنت عمك فمر أصحابك أن لا يتعرضوا لإبلنا بمكان كذا وكذا. فقال لأصحابه: لا تبدأوا إلا بأخذ إبلها أولاً. وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك، وابني في الأسارى، فقال: عجلوه لها، فضربت عنقه. وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين أن لا يقتل حتى تتكلمي في ابنك؟ ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج والله أعلم. قال المدائني: عن أبي قرة قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج. (ج/ص: 8/242) وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة منهم: جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام، قال: فلما رأيته انتضيت سيفي فقصدني. فلما رآني صمم على قتلي، فشممت سيفي ثم قلت: ( قلت: أنا أبو سعيد الخدري. قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نعم ! فمضى وتركني. قال المدائني: وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيب فقال له: بايع ! فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر. فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل إنه مجنون فخلى سبيله. وقال المدائني: عن عبد الله القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا: لما انهزم أهل المدينة يوم الحرة صاح النساء والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة. قال المدائني: عن شيخ من أهل المدينة. قال: سألت الزهري: كم كان القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف. قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام. قال الواقدي، وأبو معشر: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة، سنة ثلاث وستين. قال الواقدي: عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عوف قال: وحج بالناس في هذه السنة: عبد الله بن الزبير، وكانوا يسمونه العائذ - يعني: العائذ بالبيت - ويرون الأمر شورى، وجاء خبر الحرة إلى أهل مكة ليلة مستهل المحرم مع سعيد مولى المسور بن مخرمة، فحزنوا حزناً شديداً وتأهبوا لقتال أهل الشام. قال ابن جرير: وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف: فحدثني أحمد بن زهير، ثنا أبي، سمعت وهب بن جرير، ثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد. فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا، فلما هلك معاوية وفد إلى يزيد وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد إليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر -وكان شريفاً فاضلاً سيداً عابداً - ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه يزيد مائة ألف درهم، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملاتهم. (ج/ص: 8/243) ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدمها أتاه الناس فقالوا له: ما وراءك؟ فقال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم. قالوا: قد بلغنا أنه أعطاك وأخدمك وأجزاك وأكرمك. قال: قد فعل وما قبلت منه إلا لأتقوى له على قتاله، ثم فحض الناس فبايعوه. فبلغ ذلك يزيد فبعث إليهم مسلم بن عقبة، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقاً من قطران وغوَّروه، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدراراً بالمطر، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة. فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، وكان أميرهم مسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، قد أقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدر، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أعظم ممن قتل. فدخلوا المدينة وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوماً، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه ورأى ما صنع الناس، أمر أكبر بنيه فتقدم فقاتل حتى قتل. فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء. وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد من تاريخه من كتاب (المجالسة) لأحمد بن مروان المالكي: ثنا الحسين بن الحسن اليشكري، ثنا الزيادي عن الأصمعي ح. وحدثني محمد بن الحارث، عن المدائني قال: لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة، وابن الزبير جالس يسمع: والصائمون القانتو* ن أولو العبادة والصلاح المهتدون المحسنو* ن السابقون إلى الفلاح ماذا بواقم والبقيـ*ـع من الجحاجحة الصباح وبقاع يثرب ويحهنـ*ـن من النوادب والصياح قتل الخيار بنوا الخيا * ر ذوي المهابة والسماح فقال ابن الزبير: يا هؤلاء قتل أصحابكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أخطأ يزيد خطأً فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير فاحش، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم، وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد. وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه، ودوام أيامه من غير منازع، فعاقبه الله بنقيض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه، فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذً عزيز مقتدر، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد. (ج/ص: 8/244) قال البخاري في (صحيحه): حدثنا الحسين بن حريث، ثنا الفضل بن موسى، ثنا الجعد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء)). وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد الله القراظ المديني - واسمه دينار - عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يريد أحد المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص - أو ذوب الملح في الماء -)). وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن سعد وأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء)). وقال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، ثنا يزيد بن خصيفة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)). ورواه النسائي من غير وجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن خلاد بن منجوف بن الخزرج أخبره فذكره. وكذلك رواه الحميدي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن خصيفة. ورواه النسائي أيضاً: عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، عن عطاء بن يسار، عن ابن خلاد - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره. وقال ابن وهب: أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن أبي بكر، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)). وقال الدار قطني: ثنا علي بن أحمد بن القاسم، ثنا أبي، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، ثنا أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرة وقد كف بصره فقال: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا أبة وهل أحد يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (ج/ص: 8/245) فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخاف أهل هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين)) - ووضع يده على جبينه -. قال الدار قطني: تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظاً وإسناداً. وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنته. ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضاً لئلا يجعل لعنة وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ. وقالوا: إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا. وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحاً شديداً، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة. كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم، وقد جاء في (الصحيح): ((من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان)). وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعري في وقعة أُحد التي يقول فيها: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل حين حلت بفنائهم برَّكها * واستحر القتل في عبد الأشل قد قتلنا الضعف من أشرافهم * وعدنا ميل بدرٍ فاعتدل (ج/ص: 8/246) وقد زاد بعض الروافض فيها فقال: لعبت هاشم بالملك فلا * ملك جاءه ولا وحيٌ نزل فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنه اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنه الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه. وسيذكر في ترجمة يزيد بن معاوية قريباً، وما ذكر عنه وما قيل فيه، وما كان يعانيه من الأفعال والقبائح والأقوال في السنة الآتية، فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرة وقتل الحسين إلا يسيراً حتى قصمه الله الذي قصم الجبابرة قبله وبعده، إنه كان عليماً قديراً. وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرة مما يطول ذكرهم. فمن مشاهيرهم من الصحابة عبد الله بن حنظلة أمير المدينة في وقعة الحرة، ومعقل بن سنان، وعبيد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، ومسروق بن الأجدع. ففيها: في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير ومن التفَّ عليه من الأعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف على المدينة روح بن زنباع. فلما بلغ ثنية هرشا بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إليّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حُصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث. ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أحب إليّ من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة. وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك فيما قاله الواقدي. ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه، فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممّن يشاء. وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم فيما قاله الواقدي. وقيل: لسبع مضين منه. (ج/ص: 8/247) وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف أهل المدينة، وانضاف إليه نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمانة - في طائفة من أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التفّ معه فاقتتلوا عند ذلك قتالاً شديداً. وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة. فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبد الله بن الزبير به، فكرّ عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعاً، وصابرهم ابن الزبير حتى الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفراً بكماله. فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت، وهذا قول الواقدي، وهم يقولون: خطَّاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران هذا المسجد وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول: كيف ترى صنيع أم فروة * تأخذهم بين الصفا والمروة وأم فروة اسم المنجنيق. وقيل: إنما احترقت لأن أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت. وقيل: إنما احترقت لأن ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء، فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والأسود من الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، وأسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه. واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعُي يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس أو ثمان، أو تسع وثلاثين سنة. فكانت ولايته ثلاث سنين وستة أو ثمانية أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة. ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة، ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم: يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به. حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع بالخبر اليقين. ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها. فقال له ابن الزبير: مالك؟ فقال: أن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم. (ج/ص: 8/248) فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين؟ فقال له حصين: فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا. وذكر ابن جرير أن حصيناً وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان. فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال فنفر منه ابن نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال؟ ثم كر بالجيش راجعاً إلى الشام. وقال: أعده بالملك، ويتواعد بالقتل؟ ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: أما الشام فلست آتية، ولكن خذ لي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل فيكم. فبعث إليه يقول له: إن من يبتغيها من أهل البيت بالشام لكثير. فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين زين العابدين، وأهدى لحصين ابن نمير قتاً وعلفاً وارتحلت، بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، والله سبحانه أعلم بالصواب. هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي. ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متولياً إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة أربع وستين. وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي. روى عن أبيه معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). وحديثاً آخر في الوضوء. وعنه ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال: له أحاديث، وكان كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشعر، جميلاً طويلاً، ضخم الهامة، محدد الأصابع غليظها مجدراً. وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه في المنام أنه خرج منها قمر من قُبلها، فقصّت رؤياها على أمها فقالت: إن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له بالخلافة. (ج/ص: 8/249) وجلست أمه ميسون يوماً تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من مشطه نظرت أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك: إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت: لعن الله سواد ساقي أمك. فقال معاوية: أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده منها وكان أحمق -. فقالت فاختة: لا والله لكنك تؤثر هذا عليه. فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد الله فقال له: إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا. فقال: حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً وحماراً فارهاً. فقال: يا بني أنت حمار وتشتري لك حماراً؟ قم فاخرج. ثم قال لأمه: كيف رأيت؟ ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك. فخر يزيد ساجداً ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه فيّ هذا الرأي. حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتعرض لأيتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي. فقال: مالك ولأيتام بني عدي؟ فقال: لأنهم حالفوني وانتقلوا إلى داري. فقال معاوية: قد فعلت ذلك كله، وقبّل وجهه. ثم قال لفاختة بنت قرظة: كيف رأيت؟ فقالت: يا أمير المؤمنين أوصه بي فأنت أعلم به مني، ففعل. وفي رواية: أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك. قال له يزيد: اعتقني من النار أعتق الله رقبتك منها. قال: وكيف؟ قال: لأني وجدت في الآثار أنه من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرّمه الله على النار، فاعهد إليّ بالأمر من بعدك ففعل. وقال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له: اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك !! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الأحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر. قلت: وقد ثبت في (الصحيح) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً له فقال: ((اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه)). قال العتبي: وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسرّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم أفتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية. (ج/ص: 8/250) فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بني أمية. فقال له معاوية: اجلس فداك أبي وأمي. وعن عطاء بن السائب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره. فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا فأعطهم، ولا تكن عليهم ثقلاً فيملوا حياتك ويتمنوا موتك. فقال معاوية: لله درك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب. فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ فقال الأحنف، فقال يزيد: لا جرم لأقاسمنه، فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفاً وخمسين ثوباً. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة، عن أبيه. قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتاً فتأدب بها واحفظها، فأنشده: أنصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمرٍ عجيب غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب ولذة الأحمق مكشوفةٌ * يسعى بها كل عدوٍ مريب قلت: وهذا كما جاء في الحديث ((من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل)). وروى المدائني: أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني. (ج/ص: 8/251) ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خيرٌ لك ثواباً وخير عقبى. فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم أنشد متمثلاً: مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الأوائل وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة و تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان. وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين. ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم. وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم)). وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((أنت من الأولين)). يعني: جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا. وهذا من أعظم دلائل النبوة. وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)). وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد، عن زرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية. قال: قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين وثلاث خمسين. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الأشج أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلاً إن وليت؟ قال: يمتع الله بك يا أمير المؤمنين. قال: لتخبرني. قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بنيَّ والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر؟ وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى. (ج/ص: 8/252) قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد !! اتق الله فقد وطأت لك هذا الأمر، ووليتُ من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به. فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولنْ لهم ليناً بحيث لا يروا منك ضعفاً ولا خوراً، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك فإنهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك. فإذا أردت أمراً فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك؛ وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر. واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس. واعرف شرف أهل المدينة ومكة فإنهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا ما حل فإني رأيتهم وزراء سوء. ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلاً من أهل المدينة فأكرمه. قال: ومن هو؟ قال: عبد الله بن جعفر. فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف. فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى. فقال له ابن جعفر: والله لا أجمع أبوي لأحد بعدك. ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد بخاتي مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد. فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتي التي على الباب؟ - ولم يكن شعر بها -. فقال: يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الألطاف - وكان عليها أنواع من الأموال كلها -. فقال: اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها. فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا؟ - يعني: يزيد -. وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك. وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون خلفٌ من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر)). (ج/ص: 8/253) فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به. تفرد به أحمد. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل أبو العلاء: سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من سنة سبعين، ومن إمارة الصبيان)). وروى الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية: لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى شهوات. وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت فضربها وقال قولي: أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد)). وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة بل معضل. وقد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال أمر هذه الأمة قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد)). ثم قال: وهو منقطع أيضاً بين مكحول وأبي ثعلبة. وقال أبو يعلى: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف، عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية. قال: كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول من يغير سنتي رجل من بني أمية)). (ج/ص: 8/254) ورواه ابن خزيمة: عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عوف: حدثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم، عن أبي ذر فذكر نحوه. وفيه قصة وهي: أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر على يزيد أن يردّها عليه، فأمره أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر أبو ذر له الحديث فردها. وقال يزيد لأبي ذر: نشدتك بالله أهو أنا؟ قال: لا. وكذا رواه البخاري في (التاريخ) وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب. ثم قال البخاري: والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب. قال: وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية. وقال عباس الدوري: سألت ابن معين: أسمع أبو العالية من أبي ذر؟ قال: لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه. قلت: فمن أبو مسلم هذا؟ قال: لا أدري. وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شيء منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه والله أعلم. قال الحارث بن مسكين: عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل. قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الإسلام. قلت: يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده سفيان يوم أُحد لم يأمر بذلك ولم يسؤه. وقد قدمنا أنه قال: لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة - يعني: عبيد الله بن زياد -. وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه: قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئاً، وأكرم آل بيت الحسين، وردّ عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين حين كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام. وقيل: إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك. فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتله أولاً وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم ! فكان يقول: وما كان عليّ لو احتملت الأذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان عليّ في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية لحقه وقرابته. ثم يقول: لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً، مالي ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه. (ج/ص: 8/255) ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه - وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر، وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض. بل قد كان فاسقاً والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقوع الهرج، كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردّهم إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر عظيم كما قدمنا. وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحداً بعد بيعته ليزيد. كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع. قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته)). فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه. وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني: عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله. ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه. فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة. فقال: قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً. (ج/ص: 8/256) قالوا: فقد قاتلت مع أبيك. قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال. قال: سبحان الله !! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده. قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذاً آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة. وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه. قال: مرحباً بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة. فقال: إنما جئتك لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية)). وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر به. وتابعه إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه. وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فذكره. وقال أبو جعفر الباقر:لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان. وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة؟ فما الذي يجبرهم؟ قال: الطعام والأعطية. فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً وأثراً شعر ابن الزبعري المتقدم ذكره. وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان بن بسام: حدثني محمد بن القاسم، سمعت الأصمعي يقول: سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية: إنها بين عامر بن لؤيٍ * حين تمنى وبين عبد مناف ولها في الطيبين جدودٌ * ثم نالت مكارم الأخلاف بنت عم النبي أكرم من * يمشي بنعلٍ على التراب وحافي لن تراها على التبدل والغلـ*ـظة إلا كدرة الأصداف وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان: آب هذا الهم فاكتنفا * ثمَّ مر النوم فامتنعا راعياً للنجم أرقبه * فإذا ما كوكبٌ طلعا حام حتى أنني لأرى * أنه بالغور قد وقعا (ج/ص: 8/257) ولها بالمطارون إذا * أكل النمل الذي جمعا نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلّق تبعا في قبابٍ وسط دسكرةٍ *حولها الزيتون قد ينعا ومن شعره: وقائلةٌ لي حين شبهت وجهها * ببدر الدجى يوماً وقد ضاق منهجي تشبهني بالبدر هذا تناقصٌ * بقدري ولكن لست أول من هجي ألم تر أنَّ البدر عند كماله * إذا بلغ التشبيه عاد كدملجي فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجي قد ذكره الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال: كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها: سلامة، من أحسن النساء وجهاً، وأحسنهن عقلاً، وأحسنهن قداً، قد قرأت القرآن. وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان، والأحوص بن محمد يجلسان إليها. فعلقت الأحوص فصدت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام فامتدحه ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها. وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعاً عظيماً، وفضلها على جميع من عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالأحوص فوجده مهموماً، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هماً فقال: يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقى من الحب تباريحا أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا وصار ما يعجبه مغلقاً * عنه وما يكره مفتوحا قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها الشمَّ والريحا خليفة الله فسل الهوى * وعزَّ قلباً منك مجروحا قال: فأمسك الأحوص عن جوابه ثم غلبه وجدة عليها فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادماً وأعطته مالاً على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك. فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال: (ج/ص: 8/258) أمسى فؤادي في همٍ وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال فقالت: صحا المحبُّون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال فقال: من كان يسلو بيأس عن أخي ثقةٍ * فعنك سلامٌ ما أمسيت بالسالي فقالت: والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي فقال: والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهلٍ وفي مال قال: ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشداه ما قالا، فلم يحرفا منه حرفاً ولا غّيرا شيئاً مما سمعه. فقال لها يزيد: أتحبينه؟ قالت: إي والله يا أمير المؤمنين: حباً شديداً جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد؟ فقال له: أتحبها؟ فقال: إي والله يا أمير المؤمنين: حباً شديداً تليداً غير مطرفٍ * بين الجوانح مثل النار يضطرم فقال يزيد: إنكما لتصفان حباً شديداً خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية. فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين. وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد، واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً. وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه. وقيل: إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته. وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك. وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد. (ج/ص: 8/259) وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم. مات يزيد بحوارين من قرى دمشق في رابع عشر ربيع الأول. وقيل: يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين. وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة خمس. وقيل: سنة ست. وقيل: سبع وعشرين. ومع هذا فقد اختلف في سنّه ومبلغ أيامه في الإمارة على أقوال كثيرة، وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الإشكال من هذا الخلاف، فإن منهم من قال: جاوز الأربعين حين مات فالله أعلم. ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين يومئذٍ، ودفن بمقابر باب الصغير. وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولاً صغيراً فوسعه أضعاف ما كان يجري فيه من الماء. وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي قاضي البحرين من لفظه وكتبه لي بخطه - قال: رأيت يزيد بن معاوية في النوم فقلت له: أنت قتلت الحسين؟ فقال: لا ! فقلت له: هل غفر الله لك؟ قال: نعم، وأدخلني الجنة. قلت: فالحديث الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى معاوية يحمل يزيد. فقال: ((رجل من أهل الجنة يحمل رجلاً من أهل النار؟)) فقال: ليس بصحيح. قال ابن عساكر: وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة. وقال أبو جعفر بن جرير:
|