الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
واسمه: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز، فبلغه موته وهو بذات عرق راجعاً من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك. فقال له: أتبكي وقد جاءتك الخلافة؟ أنا أكفيكها إن شاء الله. فسري عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة والياً عليها، وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقره عليها. والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي قدم على ابن أخيه السفاح الأنبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعاً إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى. لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم الجمعة وصلى بهم. (ج/ص: 10/67) ثم ارتحل منها إلى الأنبار، وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان، وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الأمر، وكتب إلى عمه عبد الله بن علي يعلمه بوفاة السفاح، فلما بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الأمراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم خطيباً، فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها. فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء، وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئاً كثيراً جداً، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً، وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين والياً على الشام فأنا أريدها. فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه. فقال عبد الله: ويحكم ! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا. فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغوَّر ما حوله عن المياه - وكان موضع عبد الله الذي تحول منه موضعاً جيداً جداً - فاحتاج عبد الله وأصحابه فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلاً رديئاً، ثم أنشأ أبو مسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر. وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى ميمنته أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم، وقد جرت بينهم وقعات، وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول: من كان ينوي أهله فلا رجع * فرَّ من الموت وفي الموت وقع وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه. فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة: التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فمكر بهم أبو مسلم ! بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة. (ج/ص: 10/68) وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحداً، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني. واستوثقت الممالك لأبي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما، فلما مرَّا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيداً في الحديد فأدخله على المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور. وقيل: بل استأمن له إسماعيل بن علي. وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده زماناً مختفياً، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات. وهذه من بعض دواهي المنصور، والله سبحانه أعلم. فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات، كما سيأتي بيانه في موضعه، إن شاء الله تعالى. في هذه السنة أيضاً: لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه. فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل: إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وأنه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمنا. فقال لأبي أيوب: اكتب له كتاباً غليظاً. فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافة وانقمع من ذلك. وقال بعض الأمراء للمنصور: إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من الجنود من لا يخالفه، وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد. فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره في مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء ! فقال أيوب: إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا. ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الأموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهمَّ بأبي الخصيب، حتى قيل له: إنه رسول. فتركه ورجع. (ج/ص: 10/69) فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما همَّ به أبو مسلم من قتله، فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين: إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريباً. فغضب أبو مسلم وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذاً أذهب إليها وأستخلف على الشام ومصر. فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيراً. ورجع أبو مسلم من الشام قاصداً خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور. فخرج المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء. فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة. فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي عن مقامات الذل والإهانة. فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمَّل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك. ويقال: إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أما بعد فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلاً وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيداً لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة. فإن يعف عني فقديماً عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد. وذكره المدائني عن شيوخه. (ج/ص: 10/70) وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبد الله البجلي - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاماً يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به: أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك. فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبى فقل: هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك. ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن. فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما همَّ به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغَّبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعاً له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند. فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فلست ألقاه. فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به. فلما سمع ذلك كسره جداً وقال: قوموا عني الساعة. وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم. فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجع إلى إمامك سامعاً مطيعاً والسلام. فزاده ذلك كسراً أيضاً فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به. فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده. فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك ؟ قال: رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك. فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميراً يقال له: نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازماً على الذهاب تمثل بقول الشاعر: ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام ثم قال له: احفظ عني واحدة. قال: وما هي ؟ قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه. قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. قال أبو أيوب: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. وبت تلك الليلة لا يأتني نوم، وأفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو مسلم خائفاً ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن يدخل آمناً ليتمكن منه الخليفة. (ج/ص: 10/71) فلما أصبحت طلبت رجلاً من الأمراء وقلت له: هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ؟ فقال: ومن لي بذلك ؟ فقلت له: فاذهب إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه. واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه وقل له: إنا بالأشواق إليه. فسار ذلك الرجل - وهو: سلمة بن فلان - إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه. فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني. فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له: كيف بلائي عندك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها. قال: فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ؟ قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب: مالك لا تتكلم ؟ فقال قولة ضعيفة: أقتله. ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه. ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلاً تترى يتبع بعضها بعضاً، فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله. ثم قال: يا أمير المؤمنين ! أرجو أن تكون نفسك قد طابت عليّ. فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظاً عليك. ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الأربعاء، لأربع بقين من شعبان، سنة سبع وثلاثين ومائة. وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبت إليّ مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك. فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا، وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد. فقال: ويلك ! لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا. (ج/ص: 10/72) ثم قال: والله لأقتلنك. فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك. فقال: وأي عدو لي أعدى منك ؟ ثم أمر بقتله كما تقدم، فقال له بعض الأمراء: يا أمير المؤمنين ! الآن صرت خليفة. ويقال: إن المنصور أنشد عند ذلك: فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرّ عليناً بالإياب المسافر وذكر ابن خلكان: أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير أحداً في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحداً من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين ! قال الله تعالى: فقال له: لقد أودعتها أذناً واعيةً. ثم عزم على ذلك. ترجمة أبي مسلم الخراساني هو: عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له: أمير آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الخطيب: يقال له: عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية. يروي عن: أبي الزبير، وثابت البناني، وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. زاد ابن عساكر في شيوخه: محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حرملة، وعكرمة مولى ابن عباس. قال ابن عساكر: روى عنه: إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن منيب المروزي، وقديد بن منيع صهر أبي مسلم. قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن. وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل: إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره. وقيل: كان اسمه: إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن حوذون، ولد بزرجمهر، وكان يكنى: أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك. فتسمى: عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى: بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكباً على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها. وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكاً، فكان بعد ذلك خراباً. وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره، وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، فولد لأبي مسلم بنتان: إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب. (ج/ص: 10/73) وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور. وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلاً قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟ فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء)). وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه. وروى من حديث عبد الله بن منيب، عنه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد هوان قريش أهانه الله)). وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية ؟ فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت. وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمراً ناهياً قائماً في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله. وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور. ثم شمخت نفسه على المنصور وهمَّ بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطناً له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله. قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع ِ أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون: وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلاً مهلاً، احذر البغي أبا مسلم ! فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك. قال تعالى: فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانباً، وعن الحق حائداً إذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلاً متأولاً فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متديناً أحسبني هادياً مهتدياً، وأخطأت في التأويل وقدماً أخطأ المتأولون، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]. وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالاً فأمرني أن أجرد السيف، وأقتل بالظنة، وأقدم بالشبهة، وأرفع الرحمة، ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم. ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفوراً، وإن يعاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد. فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائداً، وعن الشيطان وأوامره صادراً، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركاً، ولأغواهما راكباً، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين. ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل. ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له: نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو: ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم، فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب عنك وعثاء السفر، ثم ائتني من الغد. (ج/ص: 10/75) فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم: عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم. ويقال: بل أقام أياماً يظهر له المنصور الإكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم، واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني أخافه على نفسي. فقال: لا بأس عليك، فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة -. فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له: اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيداً، حتى قال له: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلاناً، وفلاناً ؟ قال: لأنهم عصوني وخالفوا أمري. فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ؟ وصفق بيديه - وكانت الإشارة بينه وبين المرصدين لقتله - فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! استبقني لأعدائك. فقال: وأي عدو أعدى منك ؟ ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعاً ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا أبو مسلم. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت عليَّ نعمة، ولم تهجم عليَّ نقمة. ففي ذلك يقول أبو دلامة: أبا مسلم ما غيّر الله من نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الأسد الورد وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس أن يكونوا قريباً منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الأخرى فليقتلوه، فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي ؟ فقال: هذا أحدهما. فقال: أرنيه. فناوله السيف فوضعه تحت ركبته. ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ؟ قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم. قال: فلم تقدمت عليَّ في طريق الحج ؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق. قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ؟ قال: كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف. قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك ؟ قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها. (ج/ص: 10/76) ثم قال له: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك؟ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي؟ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر. ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ؟ قال: خفت أن يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري. قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ؟ قال: أراد خلافي. فقال: ويحك ! وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك. ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح ويحكم ! اضربوه قطع الله أيديكم. ثم ذبحوه وقطعوه قطعاً قطعاً، ثم ألقي في دجلة. ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم ! بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا. ويقال: إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله. قال ابن جرير: وقال المنصور عند ذلك: زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كأساً كنت تسقي بها * أمرَّ في الحلق من العلقم ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس ! لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحداً لا يسر منكم شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم. وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتدياً وأساء منتهياً، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا. ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، ومازال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني: ابن المنذر -: فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبةً * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد (ج/ص: 10/77) وقد روى البيهقي، عن الحاكم، بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم: أهو خير أم الحجاج ؟ فقال: لا أقول أن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن كان الحجاج شراً منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره. وقد روى الخطيب، عنه، أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي. ثم أنشأ يقول: قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذا حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا ومن رعى غنماً في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون، وقيل: لخمس بقين، وقيل: لأربع، وقيل: لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة سبع وثلاثين ومائة -. قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة. وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول. ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين ! والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه إلا تحنطت ولبست كفني. ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط، وعليه أدراع أكفان، فرقَّ له المنصور وأطلقه. وذكر ابن جرير: أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبراً زيادة عن من قتل بغير ذلك. (ج/ص: 10/78) وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني. فقال له: يا ابن الخبيثة ! لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل. ولما قتله المنصور لفه في كساء وهو مقطع إرباً إرباً، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين ! أين أبو مسلم ؟ قال: قد كان هاهنا آنفاً. فقال: يا أمير المؤمنين ! قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي إبراهيم الإمام فيه. فقال له: يا أنوك ! والله ما أعلم في الأرض عدواً أعدى لك منه، هاهو ذاك في البساط. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ؟ ثم استدعى المنصور برؤوس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفاً من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سروراً كثيراً. ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم. ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، بكماله مطبوعاً بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وقد كان أبي مسلم تقدم إلى خازنه: أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوماً بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوماً عليه بكماله، فلا تقبل ولا تمض ما فيه. فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بإمرة خراسان، كما وعده قبل ذلك عوضاً عن أبي مسلم. وفي هذه السنة: خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسياً تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى: بفيروز أصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشاً هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور بن مرار العجلي، فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفاً وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوماً. وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري. وخرج في هذه السنة أيضاً: رجل يقال له: ملبَّد بن حرمة الشيباني، في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشاً متعددةً كثيفةً كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبَّد وتحصن منه حميد في بعض الحصون، ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبَّد وتقلع عنه. (ج/ص: 10/79) وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس. قال الواقدي: وكان نائب الموصل - يعني: عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله. ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره. ومن مشاهير من توفي فيها: أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه، كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم. فيها: دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها. وفيها: غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لأخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار. وفيها: بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته، ولكن حبس في سجن بغداد، كما سيأتي. وفيها: خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الأموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه. وفيها: قتل الملبّد الخارجي على يدي خازم بن خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم. قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها. وممن توفي فيها من الأعيان: زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول. وفيها: كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي. (ج/ص: 10/80) قلت: ليس وهو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى: أموياً، كان قد دخل إلى بلاد المغرب فراراً من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدراً إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله. وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة، فتوفي فيها، وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر. ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهراً، ثم مات، فولي بعده الحكم بن هشام ستاً وعشرين سنة وأشهراً ثم مات، ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثاً وثلاثين سنة ثم مات، ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستاً وعشرين سنة، ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد لله بن محمد بن المنذر. وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم، والعيش الرغيد، والنساء الحسان، ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول. فيها: أكمل صالح بن علي بناء ملطية، ثم غزا الصائفة على طريق الحدث، فوغل في بلاد الروم، وغزا معه أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل. وفيها: كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض أسرى المسلمين، ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين، وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره. ولكن ذكر بعضهم أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام سنة أربعين، فالله أعلم. وفيها: وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جداً - أي: كثيرة الخصب، فكان يقال لها: السنة الخصبة -. وقيل: إنما كان ذلك في سنة أربعين. وفيها: عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي وأصحابه خوفاً على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو: سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في أصحابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك. وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها توفي: عمرو بن مجاهد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري. (ج/ص: 10/81) فيها: ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره. فأشرف عليهم، وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم، صاحب الشرطة حتى قدم الأمير من جهة الخليفة عليها، وهو: عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الأمراء لأنه بلغه عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب أبي داود بجباية الأموال المنكسرة عندهم. وفيها: حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة، ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الأقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد الجبار الأزدي. وفيها توفي: داود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس السكوني. فيها: خرجت طائفة يقال لها: الرواندية على المنصور. ذكر بن جرير، عن المدائني: أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله. قال ابن جرير: فأتوا يوماً قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: هذا قصر ربنا. فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك وقالوا: علام تحبسهم ؟ ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهراً واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة. فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور من القصر ماشياً، لأنه لم يجد دابة يركبها، ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الرواندية، وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور وقال: يا أمير المؤمنين ارجع ! نحن نكفيكهم. فأبى وقام أهل الأسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم بقية. (ج/ص: 10/82) وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياماً ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة. ولما فرغ المنصور من قتال الرواندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها، ثم أتي بالطعام فقال: أين معن بن زائدة ؟ وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جبنه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ. فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحداً يكون في الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين. فأمر له المنصور بعشرة آلاف ورضي عنه وولاه اليمن. وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفياً، لأنه قاتل المسودة مع ابن هبيرة، فلم يظهروا إلا في هذا اليوم، فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه. ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الرواندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعاً. وهذا من حزمه وصرامته. وفي هذه السنة: ولى المنصور ابنه محمداً العهد من بعده، ودعاه: بالمهدي، وولاه بلاد خراسان، وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل خلقاً من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال: يا أمير المؤمنين ! اكتب إليه ليبعث جيشاً كثيفاً إلى من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلاً. فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب: بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها. فقال المنصور لأبي أيوب: ماذا ترى ؟ قال: فاكتب إليه: إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود. فكتب إليه أيضاً: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها جيش أفسدها. فقال الخليفة لأبي أيوب: ماذا تقول ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ! هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره. فحينئذ بعث المنصور ابنه محمداً المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيراً محولاً وجهه إلى ناحية ذنب البعير. وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه، وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد ذلك. واستقر المهدي نائباً على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن يحارب الأصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر: (ج/ص: 10/83) فقل للخليفة إن جئته * نصيحاً ولا خير في المتهم إذا أيقظتك الحروب العدى * فنبه لها عمراً ثم نم فتى لا ينام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الأصبهبذ حتى ألجأوه إلى قلعته، فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، ودخل الأصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك. وكسروا أيضاً ملك الترك الذي يقال له: المصمغان، وأسروا أمماً من الذراري، فهذا فتح طبرستان الأول. وفيها: فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني. وفيها: رابط محمد بن إبراهيم الإمام ببلاد ملطية. وفيها: عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب. وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي. وفيها توفي: موسى بن كعب، وهو على شرطة المنصور. وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الأشعث، ثم عزله عنها وولى نوفل بن الفرات. وحج بالناس فيها: صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها، والله أعلم. وفيها توفي: أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق الشيباني في قول، والله سبحانه أعلم. فيها: خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة، فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة، وولاه السند والهند، فحاربه عمر بن حفص وقهره على الأرض، وتسلمها منه. وفيها: نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، ومعهم مرزوق أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصروه مدة طويلة، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أن أبا الخصيب قال: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فدخل الحصن ففرح به الأصبهبذ وأكرمه وقربه، وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه، وحظي عنده جداً وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه في الليلة الفلانية يفتح لهم، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم، فلما كانت تلك الليلة فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية وامتص الأصبهبذ خاتماً مسموماً فمات. (ج/ص: 10/84) وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحسان. وفيها: بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان، وتولى بناءها سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة. وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى. وفيها: عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة. وحج بالناس فيها: إسماعيل بن علي. وفيها توفي: سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عم الخليفة ونائب البصرة. كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد. وروى عن: أبيه، وعكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى. وعنه جماعة منهم: بنوه جعفر، ومحمد، وزينب، والأصمعي. وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن، وكان كريماً جواداً ممدحاً. وكان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف، واطلع يوماً من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن: لو أن الأمير نظر إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل ؟ فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلى نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملأ به منديلاً كبيراً، ثم دلاه إليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئاً كثيراً، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها. وقد ولي الحج في أيام السفاح، وولي البصرة أيام المنصور، وكان من خيار بني العباس، وهو: أخو إسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد، وهو: عم السفاح والمنصور. خالد الحذاء، وعاصم الأحول. وعمرو بن عبيد القدري في قول، وهو: عمرو بن عبيد بن ثوبان، ويقال: ابن كيسان، التيمي مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة. روى الحديث عن: الحسن البصري، وعبيد الله بن أنس، وأبي العالية، وأبي قلابة. وعنه: الحمادان، وسفيان بن عيينة، والأعمش - وكان من أقرانه -، وعبد الوارث بن سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطان، ويزيد بن زريع. (ج/ص،: 10/85) قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه. وقال علي بن المدنيي و يحيى بن معين: ليس بشيء، وزاد ابن معين وكان رجل سوء، وكان من الدهرية الذين يقولون: إنما الناس مثل الزرع. وقال الفلاس: متروك صاحب بدعة. كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه. وقال أبو حاتم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال شعبة، عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث. وقال حماد بن سلمة: قال لي حميد: لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري. وكذا قال: أيوب، وعوف، وابن عون. وقال أيوب: ما كنت أعدله عقلاً. وقال مطر الوراق: والله لا أصدقه في شيء. وقال ابن المبارك: إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر. وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه. قال الحسن البصري: هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث. قالوا: فأحدث والله أشد الحدث. وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث، وهماً لا تعمداً. وقد روي عنه أنه قال: إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة. وروى له حديث ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق: ((أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)). حتى قال: ((فيؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)) إلى آخره. فقال: لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق. وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإذا كان مكذوباً عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه. وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: أيها الطالب علماً * إيتِ حماد بن زيد فخذ العلم بحلم * ثمَّ قيده بقيد وذر البدعة من * آثار عمرو بن عبيد وقال ابن عدي: كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جداً، معلن بالبدع. وقال الدار قطني: ضعيف الحديث. وقال الخطيب البغدادي: جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحديث، وكان له سمت وإظهار زهد. وقد قيل: أنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين، وحكى البخاري: أن عمراً مات سنة ثنتين وثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة، وقد كان عمرو محظياً عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلاً، وكان يعجبه ذلك منه وينشد: (ج/ص: 10/86) كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيدْ * غير عمرو بن عبيدْ ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه. وقد روينا عن إسماعيل بن خالد القعنبني، قال: رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان فقال لي: أيوب ويونس وابن عون في الجنة. قلت: فعمرو بن عبيد ؟ قال: في النار. ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثة، فيسأله فيقول له: مثل ذلك. وقد رؤيت له منامات قبيحة، وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل، وأشرنا ههنا إلى نبذ من حاله ليعرف فلا يغتر به، والله أعلم. فيها: ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم، لأنهم قتلوا من المسلمين خلقاً، وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة آلاف فصاعداً فليذهب مع الجيش إلى الديلم، فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك. وحج بالناس عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها. وفيها توفي: حجاج الصواف، وحميد بن رؤبة الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في قول، وليث بن أبي سليم على الصحيح، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
|