الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ، مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَمَكِّيٌّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَآخَرُونَ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ. فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ لِقَاصٍ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: يَرِدُ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الْحَجّ: 52]. وَبِمَعْنَى التَّبْدِيلِ، وَمِنْهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النَّحْل: 101]. وَبِمَعْنَى التَّحْوِيلِ، كَتَنَاسُخِ الْمَوَارِيثِ، بِمَعْنَى تَحْوِيلِ الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ. وَبِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، إِذَا نَقَلْتُ مَا فِيهِ، حَاكِيًا لِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنْكَرَ عَلَى النَّحَّاسِ إِجَازَتَهُ ذَلِكَ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّاسِخَ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْمَنْسُوخِ؛ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظٍ آخَرَ. وَقَالَ السَّعِيدِيُّ: يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَة: 29]. وَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزُّخْرُف: 4]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ نُجُومًا جَمِيعُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 78- 79]. الثَّانِيَةُ: النَّسْخُ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِحِكَمٍ، مِنْهَا التَّيْسِيرُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَنْكَرَهُ الْيَهُودُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ بَدَاءٌ، كَالَّذِي يَرَى الرَّأْيَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَعَكْسِهِ، وَالْمَرَضِ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسِهِ، وَالْفَقْرِ بَعْدَ الْغِنَى وَعَكْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَدَاءً، هَكَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: فَقِيلَ: لَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ إِلَّا بِقُرْآنٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَة: 106] قَالُوا: وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَخَيْرًا مِنْهُ إِلَّا قُرْآنٌ. وَقِيلَ: بَلْ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّهَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النَّجْم: 3]. وَجُعِلَ مِنْهُ آيَةُ الْوَصِيَّةِ الْآتِيَةُ. وَالثَّالِثُ: إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ نَسَخَتْ، وَإِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا. حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَمَعَهَا قُرْآنٌ عَاضِدٌ لَهَا، وَحَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَمَعَهُ سُنَّةٌ عَاضِدَةٌ لَهُ؛ لِيَتَبَيَّنَ تَوَافُقُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ بُسِطَتْ فُرُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي الْأُصُولِ. الثَّالِثَةُ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ فَلَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، وَمِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ عَرَفْتَ فَسَادَ صُنْعِ مَنْ أَدْخَلَ فِي كُتُبِ النَّسْخِ كَثِيرًا مِنْ آيَاتِ الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. الرَّابِعَةُ: النَّسْخُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ، وَهُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَآيَةِ النَّجْوَى. الثَّانِي: مَا نُسِخَ مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كَآيَةِ شَرْعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، أَوْ كَانَ أُمِرَ بِهِ أَمْرًا جُمْلِيًّا كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ، وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا تَجَوُّزًا. الثَّالِثُ: مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ، ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ، ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنْسَإِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَوْ نُنْسِهَا) فَالْمُنْسَأُ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَإِ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا، لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ: أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْخِطَابِ مُشْعِرٌ بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَة: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [الْبَقَرَة: 109] مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: سُوَرُ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَقْسَامٌ: قِسْمٌ لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ: وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيُوسُفَ، وَيس، وَالْحُجُرَاتِ، وَالرَّحْمَنِ، وَالْحَدِيدِ، وَالصَّفِّ، وَالْجُمُعَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَالْمُلْكِ، وَالْحَاقَّةِ، وَنُوحٍ، وَالْجِنِّ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَعَمَّ، وَالنَّازِعَاتِ، وَالِانْفِطَارِ، وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا، وَالْفَجْرِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا التِّينَ، وَالْعَصْرَ، وَالْكَافِرُونَ. وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ: وَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ: الْبَقَرَةُ وَثَلَاثٌ بَعْدَهَا، وَالْحَجُّ، وَالنُّورُ، وَتَالِيَاهَا، وَالْأَحْزَابُ، وَسَبَأٌ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالشُّورَى، وَالذَّارِيَاتُ، وَالطُّورُ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْمُزَّمِّلُ، وَالْمُدَّثِّرُ، وَكُوِّرَتْ، وَالْعَصْرِ. وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ فَقَطْ: وَهُوَ سِتٌّ: الْفَتْحُ، وَالْحَشْرُ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَالتَّغَابُنُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْأَعْلَى. وَقِسْمٌ فِيهِ الْمَنْسُوخُ فَقَطْ: وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ الْبَاقِيَةُ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِمَّا سَيَأْتِي. السَّادِسَةُ: قَالَ مَكِّيٌّ: النَّاسِخُ أَقْسَامٌ: فَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَنَسْخِ الْحَبْسِ لِلزَّوَانِي بِالْحَدِّ. وَفَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَآيَةِ الْمُصَابَرَةِ. وَفَرْضٌ نَسَخَ نَدْبًا كَالْقِتَالِ، كَانَ نَدْبًا ثُمَّ صَارَ فَرْضًا. وَنَدْبٌ نَسَخَ فَرْضًا، كَقِيَامِ اللَّيْلِ، نُسِخَ بِالْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [الْمُزَّمِّل: 20]. السَّابِعَةُ: النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ مَعًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ) فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا: (وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ): فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: قَارَبَ الْوَفَاةَ، أَوْ: أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا الْمِثَالُ فِيهِ الْمَنْسُوخُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَالنَّاسِخُ أَيْضًا غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ نَظِيرًا. انْتَهَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ؛ وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَإِنْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تِعْدَادِ الْآيَاتِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ. وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُكْثِرُونَ أَقْسَامٌ: قِسْمٌ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنَ التَّخْصِيص: وَلَا لَهُ بِهِمَا عَلَاقَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 1]. وَ{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 254] وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالُوا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَاقٍ. أَمَّا الْأُولَى: فَإِنَّهَا خَبَرٌ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالزَّكَاةِ، وَبِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ، وَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ كَالْإِعَانَةِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: يَصْلُحُ حَمْلُهَا عَلَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ فُسِّرَتْ بِذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التِّين: 8] قِيلَ: إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ أَبَدًا، لَا يَقْبَلُ هَذَا الْكَلَامُ النَّسْخَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ بِالتَّفْوِيضِ وَتَرْكِ الْمُعَاقَبَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْبَقَرَة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [الْبَقَرَة: 83] عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَدْ غَلَّطَهُ ابْنُ الْحَصَّارِ بِأَنَّ الْآيَةَ حِكَايَةٌ عَمَّا أَخَذَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمِيثَاقِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَا نَسْخَ فِيهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ. وَقِسْمٌ هُوَ مَنْ قِسْمِ الْمَخْصُوصِ، لَا مِنْ قِسْمِ الْمَنْسُوخ: وَقَدِ اعْتَنَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِتَحْرِيرِهِ فَأَجَادَ، كَقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْعَصْر: 2، 3- 3]، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشُّعَرَاء: 224- 227]، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [الْبَقَرَة: 109] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي خُصَّتْ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ غَايَةٍ.، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي الْمَنْسُوخِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [الْبَقَرَة: 221]. قِيلَ: إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [الْمَائِدَة: 5] وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ. وَقِسْمٌ رَفَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآن: كَإِبْطَالِ نِكَاحِ نِسَاءِ الْآبَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَحَصْرِ الطَّلَاقِ فِي الثَّلَاثِ. وَهَذَا إِدْخَالُهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ عَدَمَ إِدْخَالِهِ أَقْرَبُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ. وَوَجَّهُوهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ عُدَّ فِي النَّاسِخِ لَعُدَّ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مِنْهُ، إِذْ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ رَافِعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا حَقُّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ نَسَخَتْ آيَةً. انْتَهَى. نَعَمْ، النَّوْعُ الْأَخِيرُ مِنْهُ، وَهُوَ رَافِعٌ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِدْخَالُهُ أَوْجَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ. إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ: فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُكْثِرُونَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، مَعَ آيَاتِ الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ، إِنْ قُلْنَا إِنَّ آيَةَ السَّيْفِ لَمْ تَنْسَخْهَا، وَبَقِيَ مِمَّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ عَدَدٌ يَسِيرٌ. وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ بِأَدِلَّتِهِ فِي تَأْلِيفٍ لَطِيفٍ، وَهَا أَنَا أُورِدُهُ هُنَا مُحَرَّرًا: فَمِنَ الْبَقَرَة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 180] مَنْسُوخَةٌ، قِيلَ: بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقِيلَ: بِحَدِيث: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [الْبَقَرَة: 184]. قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَة: 185]: وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ وَ(لَا) مُقَدَّرَةٌ. وَقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَة: 187]. نَاسِخَةٌ لِقَوْلِه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْبَقَرَة: 183]؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا الْمُوَافَقَةُ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ بَعْدَ النَّوْمِ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ: أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 36]. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [الْبَقَرَة: 24] إِلَى قَوْلِه: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [الْبَقَرَة: 240]. مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَة: 234]. وَالْوَصِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ، وَالسُّكْنَى ثَابِتَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ، مَنْسُوخَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ بِحَدِيث: وَلَا سُكْنَى». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 284] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَة: 286]. وَمِنْ آلِ عِمْرَانَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]: قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُن: 16]، وَقِيلَ: لَا، بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ. وَلَيْسَ فِيهَا آيَةٌ يَصِحُّ فِيهَا دَعْوَى النَّسْخِ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمِنَ النِّسَاء: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النِّسَاء: 33] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الْأَنْفَال: 75]. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 8] قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: لَا، وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 15] مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ النُّورِ. وَمِنَ الْمَائِدَة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الْمَائِدَة: 2] مَنْسُوخَةٌ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْمَائِدَة: 42] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَة: 49]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [الْمَائِدَة: 106] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2]. وَمِنَ الْأَنْفَال: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ [الْأَنْفَال: 65] مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [بَرَاءَةَ: 41] مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْعُذْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْفَتْح: 17]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} [التَّوْبَة: 91] الْآيَتَيْنِ، وَبِقَوْلِه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التَّوْبَة: 122]. وَمِنَ النُّور: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} الْآيَةَ [النُّور: 3] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النُّور: 32]. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الْآيَةَ [النُّور: 58]. قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: لَا، وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا. وَمِنَ الْأَحْزَاب: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 52]. مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 50]. وَمِنَ الْمُجَادَلَة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} الْآيَةَ [الْمُجَادَلَة: 12]. مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا. وَمِنَ الْمُمْتَحِنَة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الْمُمْتَحِنَة: 11] قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: بِآيَةِ الْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ: مُحْكَمٌ. وَمِنَ الْمُزَّمِّل: قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 2] قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ نُسِخَ الْآخِرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً مَنْسُوخَةً، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهَا، لَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي غَيْرِهَا. وَالْأَصَحُّ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَالْقِسْمَةِ الْإِحْكَامُ، فَصَارَتْ تِسْعَ عَشْرَ، وَيُضَمُّ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 115]. عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 149]. فَتَمَّتْ عِشْرُونَ. وَقَدْ نَظَمْتُهَا فِي أَبْيَاتٍ فَقُلْتُ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْ عَدَدٍ *** وَأَدْخَلُوا فِيهِ آيًا لَيْسَ تَنْحَصِرُ وَهَاكَ تَحْرِيرُ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا *** عِشْرِينَ حَرَّرَهَا الْحُذَّاقُ وَالْكُبَرُ آيُ التَّوَجُّهِ حَيْثُ الْمَرْءِ كَانَ وَأَنْ *** يُوصِيَ لِأَهْلِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُحْتَضِرُ وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مِنْ رَفَثٍ *** وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقِ الصَّوْمِ مُشْتَهِرُ وَحَقَّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَثَرٍ *** وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ لِلْأُلَى كَفَرُوا وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعْ وَصِيَّتِهَا *** وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُ وَالْحِلْفُ وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي وَتَرْكُ أُولَى *** كَفَرُوا شَهَادَتِهِمْ وَالصَّبْرُ وَالنَّفَرُ وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ *** وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ وَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جَاءَتْ وَآيَةُ نَجْـ *** ـواهُ كَذَاكَ قِيَامُ اللَّيْلِ مُسْتَطَرُ وَزِيدَ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكْتَ *** وَآيَةُ الْقِسْمَةِ الْفُضْلَى لِمَنْ حَضَرُوا
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ، فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ، فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، أَوْ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَيْضًا قَلِيلُ الْعَدَدِ؛ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِآيَةِ الْقِبْلَةِ، وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّرْتُهَا فِي كِتَابِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ إِلَّا وَالْمَنْسُوخُ قَبْلَهُ فِي التَّرْتِيبِ، إِلَّا فِي آيَتَيْن: آيَةِ الْعِدَّةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَقوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الْأَحْزَاب: 52]. تَقَدَّمَ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ ثَالِثَةً، وَهِيَ آيَةُ الْحَشْرِ فِي الْفَيْءِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْفَال: 41]. وَزَادَ قَوْمٌ رَابِعَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الْأَعْرَاف: 199]. يَعْنِي الْفَضْلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الصَّفْحِ عَنِ الْكُفَّارِ، وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ وَالْكَفِّ عَنْهُمْ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهِيَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 5]. نَسَخَتْ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ آيَةً، ثُمَّ نَسَخَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ عَجِيبِ الْمَنْسُوخِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} الْآيَةَ، فَإِنَّ أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا، وَهُوَ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الْأَعْرَاف: 199] مَنْسُوخٌ وَوَسَطَهَا مُحْكَمٌ؛ وَهُوَ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199]. وَقَالَ: مِنْ عَجِيبِهِ- أَيْضًا- آيَةٌ أَوَّلُهَا مَنْسُوخٌ وَآخِرُهَا نَاسِخٌ، وَلَا نَظِيرَ لَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. [الْمَائِدَة: 105] يَعْنِي بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ). وَقَالَ السَّعِيدِيُّ: لَمْ يَمْكُثْ مَنْسُوخٌ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} الْآيَةَ [الْأَحْقَاف: 9]، مَكَثَتْ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى نَسَخَهَا أَوَّلُ الْفَتْحِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَذَكَرَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ الضَّرِيرُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الْآيَةَ [الْإِنْسَان: 8]: إِنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (وَأَسِيرًا) وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَسِيرُ الْمُشْرِكِينَ. فَقُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَابْنَتُهُ تَسْمَعُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَتْ لَهُ: أَخْطَأْتَ يَا أَبَتِ، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَتْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُطْعَمُ وَلَا يُقْتَلُ جُوعًا. فَقَالَ: صَدَقْتِ. وَقَالَ شَيْذَلَةُ فِي الْبُرْهَان: يَجُوزُ نَسْخُ النَّاسِخِ فَيَصِيرُ مَنْسُوخًا، كَقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الْكَافِرُونَ: 6] نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَة: 5]، ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ بِقَوْلِه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التَّوْبَة: 29] كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التَّوْبَة: 29] مُخَصِّصٌ لِلْآيَةِ لَا نَاسِخٌ، نَعَمْ يُمَثَّلُ لَهُ بِأَخِرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِأَوَّلِهَا، مَنْسُوخٌ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ. وَقَوْلُهُ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التَّوْبَة: 41] نَاسِخٌ لِآيَاتِ الْكَفِّ، مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْعُذْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَا: لَيْسَ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ. وَيُشْكِلُ بِمَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْمَائِدَة: 42]. مَنْسُوخٌ بِقَوْلِه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَة: 49]. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ نَسْخُ الْقِبْلَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ آيَةٍ نُسِخَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، ثُمَّ الصِّيَامُ الْأَوَّلُ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يَقَعْ فِي الْمَكِّيِّ نَاسِخٌ. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي آيَاتٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غَافِرٍ: 7]. فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِه: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5]. قُلْتُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ نَسْخُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ بِآخِرِهَا، أَوْ بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ اتِّفَاقًا.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الْحَصَّار: إِنَّمَا يُرْجَعُ فِي النَّسْخِ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ضَابِط النُّسَخ عند العلماء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ يَقُولُ: آيَةُ كَذَا نَسَخَتْ كَذَا. قَالَ: وَقَدْ يُحْكَمُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ التَّعَارُضِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ عِلْمِ التَّارِيخِ، لِيُعْرَفَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ. قَالَ: وَلَا يُعْتَمَدُ فِي النَّسْخِ قَوْلُ عَوَامِّ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ وَلَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا مُعَارِضَةٍ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يَتَضَمَّنُ رَفْعَ حُكْمٍ وَإِثْبَاتَ حُكْمٍ تَقَرَّرَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ النَّقْلُ وَالتَّارِيخُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. قَالَ: وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ طَرَفَيْ نَقِيضٍ، فَمِنْ قَائِلٍ: لَا يُقْبَلُ فِي النَّسْخِ أَخْبَارُ الْآحَادِ الْعُدُولِ؛ وَمِنْ مُتَسَاهِلٍ يَكْتَفِي فِيهِ بِقَوْلِ مُفَسِّرٍ أَوْ مُجْتَهِدٍ. وَالصَّوَابُ خِلَافُ قَوْلِهِمَا. انْتَهَى. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِه: وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُؤَالًا وَهُوَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ؟ وَهَلَّا بَقِيَتِ التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابِ تِلَاوَتِهَا؟ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُون: بِأَنَّ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ، وَالْمَنَامُ أَدْنَى طَرِيقِ الْوَحْيِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ أَخَذْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلُّهُ! قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُقْرَأُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ آيَةٍ، فَلَمَّا كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ لَمْ يُقَدَّرْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْآنَ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَيٍّ تَعُدُّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ آيَةً أَوْ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ آيَةً. قَالَ: إِنْ كَانَتْ لَتَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ وَإِنْ كُنَّا لَنَقْرَأُ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ. قُلْتُ: وَمَا آيَةُ الرَّجْمِ؟ قَالَ: (إِذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ: «أَنَّ خَالَتَهُ قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الرَّجْمِ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ)». وَقَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ أَبِي يُونُسَ، قَالَتْ: قَرَأَ عَلَيَّ أَبِي- وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً- فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَعَلَى الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ). قَالَتْ: قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَتَيْنَاهُ، فَعَلَّمَنَا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَجِئْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ لَهُ الثَّانِي لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا الثَّالِثُ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ)». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَك: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [الْبَيِّنَة: 1] وَمِنْ بَقِيَّتِهَا: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ سَأَلَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ فَأُعْطِيهِ سَأَلَ ثَانِيًا، وَإِنْ سَأَلَ ثَانِيًا فَأُعْطِيهِ سَأَلَ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ.. وَإِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ غَيْرُ الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ)». وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةٌ نَحْوَ بَرَاءَةَ، ثُمَّ رُفِعَتْ، وَحُفِظَ مِنْهَا: (أَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِينَاهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبَ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ كُنَّا نَقْرَأُ: (لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ). ثُمَّ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا: (أَنْ جَاهِدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)؟ فَإِنَّا لَا نَجِدُهَا! قَالَ: أُسْقِطَتْ فِيمَا أُسْقِطَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الْكَلَاعِيّ: أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: أَخْبِرُونِي بِآيَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُكْتَبَا فِي الْمُصْحَفِ؟ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ- وَعِنْدَهُمْ أَبُو الْكَنُّودِ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ- فَقَالَ مَسْلَمَةُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَلَا أَبْشِرُوا أَنْتُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ آوَوْهُمْ وَنَصَرُوهُمْ وَجَادَلُوا عَنْهُمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَا يَقْرَآنِ بِهَا، فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ، فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ، فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ فَالْهُوَا عَنْهَا)». وَفِي الصَّحِيحَيْن: عَنْ أَنَسٍ- فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا، وَقَنَتَ يَدْعُو عَلَى قَاتِلِيهِمْ- قَالَ أَنَسٌ وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى رُفِعَ: (أَنْ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا). وَفِي الْمُسْتَدْرَك: عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ رُبُعَهَا. يَعْنِي(بَرَاءَةَ). قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُنَادِي فِي كِتَابِهِ (النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ): وَمِمَّا رُفِعَ رَسْمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُرْفَعْ مِنَ الْقُلُوبِ حِفْظُهُ، سُورَتَا الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، وَتُسَمَّى سُورَتَيِ الْخَلْعِ وَالْحَفْدِ.
تَنْبِيهٌ: حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ عَنْ قَوْمٍ: إِنْكَارَ هَذَا الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِيهِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى إِنْزَالِ قُرْآنٍ وَنَسْخِهِ بِأَخْبَارِ آحَادٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَيَأْمُرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ، فَيَنْدَرِسُ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِه: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الْأَعْلَى: 18- 19]. وَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْءٌ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ بِالرَّسْمِ، ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ النَّاسَ، وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَذْهَانِهِمْ. وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِ عُمَرَ: (لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا)- يَعْنِي آيَةَ الرَّجْمِ- ظَاهِرُهُ أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ، وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً لَزِمَ أَنَّ تَكُونَ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَقَالَةَ النَّاسِ لَا تَصْلُحُ مَانِعًا. وَبِالْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ مُشْكِلَةٌ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ، وَمِنْ هُنَا أَنْكَرَ ابْنُ ظَفَرٍ فِي (الْيَنْبُوعِ) عَدَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ قَالَ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْمُنْسَأِ لَا النَّسْخِ، وَهُمَا مِمَّا يَلْتَبِسَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنْسَأَ لَفْظُهُ قَدْ يُعْلَمُ حُكْمُهُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: (لَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ) مَرْدُودٌ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ الْمُصْحَفَ، فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ زَيْدٌ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ)، فَقَالَ عُمَرُ: لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَكْتُبُهَا؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ»، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ، وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاج: فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا؛ لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا. قُلْتُ: وَخَطَرَ لِي فِي ذَلِكَ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ أَنَّ سَبَبَهُ التَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ بِعَدَمِ اشْتِهَارِ تِلَاوَتِهَا وَكِتَابَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا لِأَنَّهُ أَثْقَلُ الْأَحْكَامِ وَأَشَدُّهَا، وَأَغْلَظُ الْحُدُودِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى نَدْبِ السَّتْرِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ: «أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَلَا تَكْتُبُهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ! وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُبْ لِي آيَةَ الرَّجْمِ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ». قَوْلُهُ: (اكْتُبْ لِي) أَيْ: ائْذَنْ لِي فِي كِتَابَتِهَا، أَوْ مَكِّنِّي مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَشُكُّو فِي الرَّجْمِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي وَقُلْتَ: تَسْتَقْرِئُهُ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدِ الْحُمُرِ؟. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ. تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ فِي هَذَا النَّوْع: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقَعُ النَّسْخُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَة: 106]. وَهَذَا إِخْبَارٌ لَا يَدْخُلُهُ خُلْفٌ؟. فَالْجَوَابُ: أَنْ تَقُولَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، وَكُلُّ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ- مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ الْآنَ- فَقَدْ أَبْدَلَهُ بِمَا عَلِمْنَاهُ، وَتَوَاتَرَ إِلَيْنَا لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ قُطْرُبٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَكَلَامُهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82]، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ لِلْمُبْتَدِئِ مَا يُوهِمُ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَاحْتِيجَ لِإِزَالَتِهِ، كَمَا صَنَّفَ فِي مُخْتَلَفِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنْهُ التَّوَقُّفُ فِي بَعْضِهَا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِه: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هُوَ؟ أَشَكٌّ؟ قَالَ: لَيْسَ بِشَكٍّ وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ، قَالَ: هَاتِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، وَقَالَ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 42]، فَقَدْ كَتَمُوا وَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]، ثُمَّ قَالَ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطُّور: 25]، وَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فُصِّلَتْ: 9- 11]، حَتَّى بَلَغَ طَائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11]، ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النَّازِعَات: 27]، ثُمَّ قَالَ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النَّازِعَات: 30]، وَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: وَكَانَ اللَّهُ، مَا شَأْنُهُ يَقُولُ: وَكَانَ اللَّهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ} ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ شِرْكًا، وَلَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، جَحَدَهُ الْمُشْرِكُونَ رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]، فَإِنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فُصِّلَتْ: 9]، فَإِنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَكَانَتِ السَّمَاءُ دُخَانًا فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النَّازِعَات: 30]، يَقُولُ: جَعَلَ فِيهَا جَبَلًا وَجَعَلَ فِيهَا نَهْرًا، وَجَعَلَ فِيهَا شَجَرًا، وَجَعَلَ فِيهَا بُحُورًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ} فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. فَمَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ يُشْبِهُ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ أَصَابَ الَّذِي أَرَادَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِه: حَاصِلٌ فِيهِ السُّؤَالُ عَنْ أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. الْأَوَّلُ: نَفْيُ الْمَسْأَلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِثْبَاتُهَا. الثَّانِي: كِتْمَانُ الْمُشْرِكِينَ حَالَهُمْ وَإِفْشَاؤُهُ. الثَّالِثُ: خَلْقُ الْأَرْضِ أَوِ السَّمَاءِ أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعُ: الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُضِيِّ مَعَ أَنَّ الصِّفَةَ لَازِمَةٌ. وَحَاصِلُ جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَوَّل: أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ فِيمَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ وَإِثْبَاتَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحُهُمْ. وَعَنِ الثَّالِث: أَنَّهُ بَدَأَ خَلْقَ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَغَيْرَهَا فِي يَوْمَيْنِ، فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِلْأَرْضِ. وَعَنِ الرَّابِع: بِأَنَّ (كَانَ) وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الِانْقِطَاعَ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ جَاءَ فِيهِ تَفْسِيرٌ آخَرُ: أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عِنْدَ تَشَاغُلِهِمْ بِالصَّعْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَإِثْبَاتُهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ السُّدِّيِّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَإِثْبَاتَهَا بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ طَلَبُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ الْعَفْوَ فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ زَاذَانَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادَى: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ، قَالَ: فَتَوَدُّ الْمَرْأَةُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَبِيهَا أَوِ ابْنِهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى قَالَ: لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ بِنَسَبٍ شَيْئًا وَلَا يَتَسَاءَلُونَ بِهِ، وَلَا يَمُتُّ بِرَحِمٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ وَرَدَ بِأَبْسَطَ مِنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّه: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 42]، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، فَقَالَ: إِنِّي أَحْسَبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ، فَقُلْتَ لَهُمْ: آتِي ابْنَ عَبَّاسٍ، أُلْقِي عَلَيْهِ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ؟ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مِمَّنْ وَحَّدَهُ فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُسْتَنْطَقُ جَوَارِحُهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَفِيه: ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ: رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ. وَيُثْنِي مَا اسْتَطَاعَ فَيَقُولُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ، فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِه: مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّ (ثُمَّ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا إِيرَادَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرْتِيبُ الْخَبَرِ لَا الْمُخْبَرُ بِهِ كَقَوْلِه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَلَد: 17]. وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا وَهِيَ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ لَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ. وَقِيلَ: خَلَقَ بِمَعْنَى قَدَّرَ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، فَيَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَضَتْ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ انْقَضَى، وَأَمَّا الصِّفَتَانِ فَلَا تَزَالَانِ كَذَلِكَ لَا يَنْقَطِعَانِ; لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ أَوِ الرَّحْمَةَ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ مُرَادُهُ. قَالَهُ الشَّمْسُ الْكَرْمَانِيُّ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِجَوَابَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّسْمِيَةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ وَانْتَهَتْ وَالصِّفَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَالْآخَرُ أَنَّ مَعْنَى (كَانَ) الدَّوَامُ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ كَذِلَكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ السُّؤَالُ عَلَى مَسْلَكَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَلَى دَفْعِهِمَا كَأَنْ يُقَالَ: هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَغْفِرُ لَهُ أَوْ يَرْحَمُ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَالِ كَذَلِكَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ كَانَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّل: بِأَنَّ كَانَ فِي الْمَاضِي تُسَمَّى بِهِ. وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ كَانَ تُعْطِي مَعْنَى الدَّوَامِ. وَقَدْ قَالَ النُّحَاةُ: كَانَ لِثُبُوتِ خَبَرِهَا مَاضِيًا دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَهُودِيًّا قَالَ لَهُ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، فَكَيْفَ هُوَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَزِيزًا حَكِيمًا. مَوْضِعٌ آخَرُ تَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السَّجْدَة: 5]، وَقَوْلِه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [الْمَعَارِج: 4]، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ: مَا أَدْرِي مَا هُمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِيهِمَا مَا لَا أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَضُرِبَتِ الْبَعِيرُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا حَضَرْتُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لِلسَّائِل: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدِ اتَّقَى أَنْ يَقُولَ فِيهِمَا، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ، وَيَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ، وَيَوْمَ الْخَمْسِينَ أَلْفًا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: حَدِّثْنِي مَا هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [الْمَعَارِج: 4]، وَ{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السَّجْدَة: 5]، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الْحَجّ: 47]، فَقَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ حِسَابُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَالسَّمَاوَاتُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كُلُّ يَوْمٍ يَكُونُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَ{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}، قَالَ: ذَلِكَ مِقْدَارُ الْمَسِيرِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِدَلِيلِ قَوْلِه: {يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [الْمُدَّثِّر: 9- 10].
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: لِلِاخْتِلَافِ أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: وُقُوعُ الْمُخْبَرِ بِهِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَطْوِيرَاتٍ شَتَّى كَقَوْلِه: فِي خَلْقِ آدَمَ: {مِنْ تُرَابٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 59]، وَمَرَّةً: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الْحِجْر: 26 وَ28 وَ33]، وَمَرَّةً: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصَّافَّات: 11]، وَمَرَّةً: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرَّحْمَن: 14]، فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ وَمَعَانِيهَا فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمَأِ، وَالْحَمَأُ غَيْرُ التُّرَابِ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا إِلَى جَوْهَرٍ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَمِنَ التُّرَابِ دَرَجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. وَكَقَوْلِه: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} [الشُّعَرَاء: 32]، وَفِي مَوْضِعٍ {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [الْقَصَص: 31]، وَالْجَانُّ: الصَّغِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالثُّعْبَانُ الْكَبِيرُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا خَلْقُ الثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ، وَاهْتِزَازَهَا وَحَرَكَتَهَا وَخِفَّتَهَا كَاهْتِزَازِ الْجَانِّ وَخِفَّتِهِ. الثَّانِي: لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ كَقَوْلِه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصَّافَّات: 24]، وَقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَاف: 6]، مَعَ قَوْلِه: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمَن: 39]، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: فَتُحْمَلُ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى السُّؤَالِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسِلِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ الْإِقْرَارُ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ كَثِيرَةً، فَفِي مَوْضِعٍ يُسْأَلُونَ، وَفِي آخَرَ لَا يُسْأَلُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ الْمُثْبَتَ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ وَتَوْبِيخٍ، وَالْمَنْفِيَّ سُؤَالُ الْمَعْذِرَةِ وَبَيَانِ الْحُجَّةِ. وَكَقَوْلِه: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]، مَعَ قَوْلِه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُن: 16]، حَمَلَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذُلِيُّ الْآيَةَ الْأَوْلَى عَلَى التَّوْحِيدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهَا: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]، وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْأَعَمَالِ، وَقِيلَ: بَلِ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى. وَكَقَوْلِه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النِّسَاء: 3]، مَعَ قَوْلِه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النِّسَاء: 129]، فَالْأُولَى تُفْهِمُ إِمْكَانَ الْعَدْلِ وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأُولَى فِي تَوْفِيَةِ الْحُقُوقِ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الِإِنْسَانِ. وَكَقَوْلِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الْأَعْرَاف: 28]، مَعَ قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الْإِسْرَاء: 16]، فَالْأُولَى فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالتَّقْدِيرِ. الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِهَتَيِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الْأَنْعَام: 17]، أُضِيفَ الْقَتْلُ إِلَيْهِمْ وَالرَّمْيُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَةِ الْكَسْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَنَفَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ بِاعْتِبَارِ التَّأْثِيرِ. الرَّابِعُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَقَوْلِه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الْحَجّ: 2]؛ أَيْ: سُكَارَى مِنَ الْأَهْوَالِ مَجَازًا لَا مِنَ الشَّرَابِ حَقِيقَةً. الْخَامِسُ: بِوَجْهَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ كَقَوْلِه: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، مَعَ قَوْلِه: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشُّورَى: 45]، قَالَ قُطْرُبٌ: فَبَصَرُكَ أَيْ: عِلْمُكَ وَمَعْرِفَتُكَ بِهَا قَوِيَّةٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَصُرَ بِكَذَا؛ أَيْ: عَلِمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22]. وَكَقَوْلِه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرَّعْد: 28]، مَعَ قَوْلِه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الْأَنْفَال: 2]، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى، فَتَوْجَلُ الْقُلُوبُ لِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِه: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 23]. وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الْكَهْف: 55]، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الْإِسْرَاء: 94]، فَهَذَا حَصْرٌ آخَرُ فِي غَيْرِهِمَا. وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأَوْلَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا إِرَادَةُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْخَسْفِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا فِي الْآخِرَةِ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مَانِعَةٌ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَافِي الْمُرَادَ، فَهَذَا حَصْرٌ فِي السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَة: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا اسْتِغْرَابُ بَعْثِهِ بَشَرًا رَسُولًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَابِ بِالِالْتِزَامِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَانِعِيَّةِ، وَاسْتِغْرَابُهُمْ لَيْسَ مَانِعًا حَقِيقِيًّا، بَلْ عَادِيًّا لِجَوَازِ وُجُودِ الْإِيمَانِ مَعَهُ، بِخِلَافِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ، وَالْأَوَّلُ حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا تَنَافِيَ أَيْضًا. وَمِمَّا اسْتَشْكَلَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الْأَنْعَام: 21]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الزُّمَر: 32]، مَعَ قَوْلِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الْكَهْف: 57]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 114]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ هُنَا النَّفْيُ وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، فَيَكُونُ خَبَرًا، وَإِذَا كَانَ خَبَرًا وَأُخِذَتِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ، وَأُجِيبُ بِأَوْجُهٍ. مِنْهَا: تَخْصِيصُ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَعْنَى صِلَتِهِ؛ أَيْ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذَا تَخَصَّصَ بِالصِّلَاتِ فِيهَا زَالَ التَنَاقُضُ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ سَالِكًا طَرِيقَهُمْ، وَهَذَا يَئُولُ مَعْنَاهُ إِلَى مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ السَّبْقُ إِلَى الْمَانِعِيَّةِ وَالِافْتِرَائِيَّةِ. وَمِنْهَا:- وَادَّعَى أَبُو حَيَّانَ أَنَّهُ الصَّوَابُ- أَنَّ نَفْيَ الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمِ التَّنَاقُضُ؛ لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَصَارَ الْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى وَمَنْ مَنَعَ، وَنَحْوُهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ نَفْيَ التَّفْضِيلِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّهْوِيلُ وَالتَّفْظِيعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِثْبَاتِ الْأَظْلَمِيَّةِ لِلْمَذْكُورِ حَقِيقَةً وَلَا نَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ عَنْ قَوْلِه: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [الْبَلَد: 1]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهِ ثُمَّ أَقْسَمَ بِهِ فِي قَوْلِه: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التِّين: 3]، فَقَالَ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أُجِيبُكَ ثُمَّ أَقْطَعُكَ، أَوْ أَقْطَعُكَ ثُمَّ أُجِيبُكَ؟ فَقَالَ: بَلِ اقْطَعْنِي ثُمَّ أَجِبْنِي فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ رِجَالٍ وَبَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَكَانُوا أَحْرَصَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَجِدُوا فِيهِمْ غَمْزًا وَعَلَيْهِ مَطْعَنًا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُنَاقَضَةً لَتَعَلَّقُوا بِهِ وَأَسْرَعُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا وَجَهِلْتَ، وَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْهُ مَا أَنْكَرْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُدْخِلُ (لَا) فِي كَلَامِهَا وَتُلْغِي مَعْنَاهَا، وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا. تَنْبِيهٌ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا تَعَارَضَتِ الْآيُ وَتَعَذَّرَ فِيهَا التَّرْتِيبُ وَالْجَمْعُ، طُلِبَ التَّارِيخُ وَتُرِكَ الْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ، عُلِمَ بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. قَالَ: وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ تَخْلُوَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. قَالَ غَيْرُهُ: وَتَعَارُضُ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، نَحْوُ: وَأَرْجُلَكُمْ [الْمَائِدَة: 6]، بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، وَلِهَذَا جُمِعَ بَيْنِهِمَا بِحَمْلِ النَّصْبِ عَلَى الْغَسْلِ، وَالْجَرِّ عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: جِمَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ صَحَّ أَنْ يُضَافَ بَعْضُ مَا وَقَعَ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ فِي اللَّفْظِ مَا ضَادَّهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيهِ النَّسْخُ فِي وَقْتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ تَعَارُضُ آيِ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ وَمَا يُوجِبُهُ الْعَقْلُ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَر: 62] مُعَارِضًا لِقَوْلِه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [الْعَنْكَبُوت: 17]، {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} [الْمَائِدَة: 110]، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَا عَارَضَهُ، فَيُؤَوَّلُ (وُتَخْلُقُونَ) عَلَى تَكْذِبُونَ وَ(تَخْلُقُ) عَلَى (تُصَوِّرُ). فَائِدَةٌ: قَالَ الْكَرْمَانِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82]، الِاخْتِلَافُ عَلَى وَجْهَيْن: اخْتِلَافُ تَنَاقُضٍ وَهُوَ مَا يَدْعُو فِيهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إِلَى خِلَافِ الْآخَرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقُرْآنِ. وَاخْتِلَافُ تَلَازُمٍ وَهُوَ مَا يُوَافِقُ الْجَانِبَيْنِ، كَاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
الْمُطْلَقُ: الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ وَهُوَ مَعَ الْقَيْدِ كَالْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَتَى وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، بَلْ يَبْقَى الْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا، نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ: مِثْلَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2]، وَقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَة: 106]. وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فِي قَوْلِه: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَة: 282]، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النِّسَاء: 6]، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ. وَمِثْلُ تَقْيِيدِهِ مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّسَاء: 11]، وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَإِطْلَاقِهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ. وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَرَافِقِ [الْمَائِدَة: 6] فِي الْوُضُوءِ وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَتَقْيِيدُ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِه: {مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 217]، وَأُطْلِقَ فِي قَوْلِه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [الْمَائِدَة: 5]، وَتَقْيِيدُ تَحْرِيمِ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ فِي الْأَنْعَامِ وَأُطْلِقَ فِيمَا عَدَاهَا. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ حَمُلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْجَمِيعِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَحْمِلُهُ، وَيُجَوِّزُ إِعْتَاقَ الْكَافِرِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، حُكْمُهُ وَيَكْتَفِي فِي التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهَا. وَالثَّانِي: مِثْلُ تَقْيِيدِ الصَّوْمِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَتَقْيِيدِهِ بِالتَّفْرِيقِ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ، وَأَطْلَقَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، فَيَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ جَوَازِهِ مُفَرَّقًا وَمُتَتَابِعًا، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا لِتَنَافِي الْقَيْدَيْنِ، وَهُمَا التَّفْرِيقُ وَالتَّتَابُعُ وَلَا عَلَى أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إِذَا قُلْنَا: بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَهَلْ هُوَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ؟ مَذْهَبَان: وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ، وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ. الثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ. فَأَمَّا إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ ثُمَّ فِي آخِرَ بِبَعْضِهَا، وَسَكَتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ؛ كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ، فَلَا يُقَالُ بِالْحَمْلِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْعِتْقَ وَالصَّوْمَ وَالْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاقْتَصَرَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ. فَلَا يُقَالُ بِالْحَمْلِ وَإِبْدَالِ الصِّيَامِ بِالطَّعَامِ.
الْمَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَإِنْ أَفَادَ مَعْنًى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَالنَّصُّ، نَحْوَ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [الْبَقَرَة: 196]، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِنُدُورِ النَّصِّ جِدًّا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ بَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ النَّصِّ الِاسْتِقْلَالُ بِإِفَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَطْعٍ مَعَ انْحِسَامِ جِهَاتِ التَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ، وَهَذَا وَإِنْ عَزَّ حُصُولُهُ بِوَضْعِ الصِّيَغِ رَدًّا إِلَى اللُّغَةِ فَمَا أَكْثَرَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ. انْتَهَى. أَوْ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَالظَّاهِرُ، نَحْو: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [الْبَقَرَة: 173]، فَإِنَّ الْبَاغِيَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَاهِلِ وَعَلَى الظَّالِمِ، وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ، وَنَحْو: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَة: 222]، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلِانْقِطَاعِ طُهْرٌ، وَلِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَهُوَ فِي الثَّانِي أَظْهَرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ، وَيُسَمَّى الْمَرْجُوحُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ مُؤَوَّلًا كَقَوْلِه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الْحَدِيد: 4]، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُ الْمَعِيَّةَ عَلَى الْقُرْبِ بِالذَّاتِ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ أَوْ عَلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ. وَكَقَوْلِه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الْإِسْرَاء: 24]، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَجْنِحَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُضُوعِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ أَوْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ لَا. وَوَجْهُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ خُوطِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً أُرِيدَ هَذَا، وَمَرَّةً أُرِيدَ هَذَا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [الْبَقَرَة: 282]، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ: لَا يُضَارِرُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ صَاحِبَ الْحَقِّ بِجَوْرٍ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ. وَلَا يُضَارَرُ- بِالْفَتْحِ- أَيْ: لَا يَضُرُّهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمَا مَا لَا يَلْزَمُهُمَا، وَإِجْبَارِهِمَا عَلَى الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ. ثُمَّ إِنْ تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى إِضْمَارٍ سُمِّيَتْ دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ، نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]؛ أَيْ: أَهْلَهَا. وَإِنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ، وَدَلَّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ سُمِّيَتْ: دَلَالَةَ إِشَارَةٍ كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]، عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا؛ إِذْ إِبَاحَةُ الْجِمَاعِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جُنُبًا فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ.
وَالْمَفْهُومُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ. وَهُوَ قِسْمَان: مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ، وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ. فَالْأَوَّلُ: مَا يُوَافِقُ حُكْمُهُ الْمَنْطُوقَ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى سُمِّي فَحْوَى الْخِطَابِ كَدَلَالَةِ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا سُمِّي لَحْنَ الْخِطَابِ؛ أَيْ مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاء: 10] عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْأَكْلِ فِي الْإِتْلَافِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ دَلَالَةُ ذَلِكَ قِيَاسِيَّةٌ أَوْ لَفْظِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أَوْ حَقِيقِيَّةٌ؟ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِنَا الْأُصُولِيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا يُخَالِفُ حُكْمُهُ الْمَنْطُوقَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مَفْهُومُ صِفَةٍ؛ نَعْتًا كَانَ أَوْ حَالًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ عَدَدًا، نَحْو: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَات: 6] مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْفَاسِقِ لَا يَجِبُ التَّبَيُّنُ فِي خَبَرِهِ، فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ. {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [الْبَقَرَة: 187]. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [الْبَقَرَة: 197]؛ أَيْ: فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي غَيْرِهَا. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 198]؛ أَيْ: فَالذِّكْرُ عِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ مُحَصِّلًا لِلْمَطْلُوبِ. {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4]؛ أَيْ: لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ. وَشَرْطٍ، نَحْو: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6]؛ أَيْ: فَغَيْرُ أُولَاتِ الْحَمْلِ لَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ. وَغَايَةٍ، نَحْو: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَة: 230]؛ أَيْ: فَإِذَا نَكَحَتْهُ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِشَرْطِهِ. وَحَصْرٍ، نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35]، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طَه: 98]؛ أَيْ: فَغَيْرُهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشُّورَى: 9]؛ أَيْ: فَغَيْرُهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 158]؛ أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَيْ: لَا غَيْرَكَ. وَاخْتُلِفَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْمَفَاهِيمِ حُكْمُهُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَالْأَصَحُّ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُلَّهَا حُجَّةٌ بِشُرُوطٍ. مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ خَرَجَ لِلْغَالِبِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَعْتَبِرِ الْأَكْثَرُونَ مَفْهُومَ قَوْلِه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النِّسَاء: 23]، فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الرَّبَائِبِ فِي حُجُورِ الْأَزْوَاجِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ. وَأَنْ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ وَمِنْ ثَمَّ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]، وَقَوْلِه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 28]، وَقَوْلِه: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النُّور: 33]، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدَ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَلْفَاظُ إِمَّا أَنْ تَدُلَّ بِمَنْطُوقِهَا أَوْ بِفَحْوَاهَا وَمَفْهُومِهَا أَوْ بِاقْتِضَائِهَا وَضَرُورَتِهَا أَوْ بِمَعْقُولِهَا الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهَا، حَكَاهُ ابْنُ الْحَصَّار: وَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ. قُلْتُ: فَالْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ، وَالثَّانِي: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ، وَالثَّالِثُ: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ، وَالرَّابِعُ: دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ النَّفِيس: الْخِطَابُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا. أَحَدُهَا خِطَابُ الْعَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ كَقَوْلِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الرُّوم: 54]. وَالثَّانِي: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِه: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 106]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [الْمَائِدَة: 67]. الثَّالِثُ: خِطَابُ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [الْحَجّ: 1]، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ. الرَّابِعُ: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ كَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]، افْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الْأَحْزَاب: 50]، الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لَهُ فَلَمَّا قَالَ فِي الْمَوْهُوبَةِ {خَالِصَةً لَكَ} [الْأَحْزَاب: 50] عُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ. الْخَامِسُ: خِطَابُ الْجِنْسِ كَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}. السَّادِسُ: خِطَابُ النَّوْع: نَحْو: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}. السَّابِعُ: خِطَابُ الْعَيْنِ، نَحْو: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} [الْبَقَرَة: 65]، {يَا نُوحُ اهْبِطْ} [هُودٍ: 48]، {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} [الصَّافَّات: 104، 105]، {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ} [النَّمْل: 10]. {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 55]، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ الْخِطَابُ بِيَا مُحَمَّدُ بَلْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يَا أَيُّهَا الِرَسُولُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَمَّا سِوَاهُ، وَتَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُنَادُوهُ بِاسْمِهِ. الثَّامِنُ: خِطَابُ الْمَدْحِ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَة: 104]، وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِطَابُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا [الْأَنْفَال: 74]. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ 30 فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاة: يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ. وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يُنْهَى عَنْهُ. التَّاسِعُ: خِطَابُ الذَّمِّ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التَّحْرِيم: 7]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الْكَافِرُونَ: 1]، وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْخِطَابِ بِـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عَلَى الْمُوَاجَهَةِ، وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ جِيءَ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ كَقَوْلِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْبَقَرَة: 6]، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَال: 38]. الْعَاشِرُ: خِطَابُ الْكَرَامَةِ كَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ، وَكَذَا عَكْسُهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّشْرِيعِ الْعَامِّ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَة: 67]،، وَفِي مَقَامِ الْخَاصِّ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيم: 1]، قَالَ: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ لَكِنْ مَعَ قَرِينَةِ إِرَادَةِ الْعُمُومِ كَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطَّلَاق: 1]، وَلَمْ يَقُلْ: طَلَّقْتَ. الْحَادِي عَشَرَ: خِطَابُ الْإِهَانَةِ، نَحْو: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الْحِجْر: 34]، {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 108]. الثَّانِي عَشَرَ: خِطَابُ التَّهَكُّمِ، نَحْو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49]. الثَّالِثَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الِانْفِطَار: 6]. الرَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51]، إِلَى قَوْلِه: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 54]، فَهُوَ خِطَابٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ؛ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَذَا قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الْآيَةَ [النَّحْل: 126] خِطَابٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ [النَّحْل: 127]، وَكَذَا قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} [هُودٍ: 14]، بِدَلِيلِ قَوْلِه: قُلْ فَأْتُوا. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99]؛ أَي: ارْجِعْنِي. وَقِيلَ: رَبِّ خِطَابٌ لَهُ تَعَالَى، وَارْجِعُونِ لِلْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ حَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ، فَاخْتَلَطَ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الشَّطَطِ، وَقَدِ اعْتَادَ أَمْرًا يَقُولُهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ، نَحْو: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]، وَالْخِطَابُ لِمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ، وَقِيلَ: لِخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ فِي قَوْلِه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، فَيَكُونُ عَلَى الْأَصْلِ. وَجَعَلَ الْمَهْدَوِيُّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَالَ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يُونُسَ: 89]، قَالَ: الْخِطَابُ لِمُوسَى وَحَدَهُ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي وَقِيلَ: لَهُمَا لِأَنَّ هَارُونَ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ وَالْمُؤَمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ. السَّادِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِه: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طَه: 49]؛ أَيْ: وَيَا هَارُونُ وَفِيهِ وَجْهَان: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالنِّدَاءِ لِإِدْلَالِهِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ. وَالْآخَرُ: لِأَنَّهُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ وَالْآيَاتِ، وَهَارُونُ تَبَعٌ لَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ هَارُونَ لَمَّا كَانَ أَفْصَحَ مِنْ مُوسَى نَكَبَ فِرْعَوْنُ عَنْ خِطَابِهِ حَذَرًا مِنْ لِسَانِهِ. وَمَثْلُهُ {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طَه: 177]، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّقَاءَ فِي مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي جَانِبِ الرَّجَالِ. وَقِيلَ: إِغْضَاءٌ عَنْ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ كَمَا قِيلَ: مِنَ الْكَرَمِ سَتْرُ الْحَرَمِ. السَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِه: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} [يُونُسَ: 87]. الثَّامِنَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي: {الْقِيَا} [ق: 24]. التَّاسِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يُونُسَ: 61]، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: جَمَعَ فِي الْفِعْلِ الثَّالِثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُهُ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]. الْعِشْرُونَ: عَكْسُهُ، نَحْو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَة: 43]، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 87]. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، نَحْو: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يُونُسَ: 78]. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: عَكْسُهُ، نَحْو: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طَه: 49]. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الْأَحْزَاب: 1]. الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَقِيًّا وَحَاشَاهُ مِنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ. وَمِنْهُ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 94]. حَاشَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّكِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ التَّعْرِيضُ بِالْكُفَّارِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَشُكَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ، وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الْآيَةَ [الزُّخْرُف: 45]. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الْأَنْعَام: 35]، وَأَنْحَاءُ ذَلِكَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْغَيْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَيْنُ، نَحْو: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 10]. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْخِطَابُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُقْصَدُ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ، نَحْو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الْحَجّ: 18]. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَنْعَام: 27]. {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السَّجْدَة: 12] لَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ خِطَابٌ مُعَيَّنٌ بَلْ كَلُّ أَحَدٍ، وَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخِطَابِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، يُرِيدُ أَنَّ حَالَهُمْ تَنَاهَتْ فِي الظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا رَاءٍ دُونَ رَاءٍ، بَلْ كُلُّ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الشَّخْصِ ثُمَّ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْو: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هُودٍ: 14]، خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّار: فَاعْلَمُوا أَنَمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هُودٍ: 14]، بِدَلِيل: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هُودٍ: 14]، وَمِنْهُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا} [الْفَتْح: 8]، إِلَى قَوْلِهِ لِتُؤْمِنُوا [الْفَتْح: 9] فِي مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّلْوِينِ وَهُوَ الِالْتِفَاتُ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْجَمَادَاتِ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ، نَحْو: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فُصِّلَتْ: 11]. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّهْيِيجِ، نَحْو: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَة: 23]. الثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّحَنُّنِ وَالِاسْتِعْطَافِ، نَحْو: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزُّمَر: 53]. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّحَبُّبِ، نَحْو: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} [مَرْيَمَ: 42]. {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ} [لُقْمَانَ: 16]. {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طَه: 94]. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّعْجِيزِ، نَحْو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [الْبَقَرَة: 23]. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّشْرِيفِ وَهُوَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مُخَاطَبَةً بِـ (قُلْ) فَإِنَّهُ تَشْرِيفٌ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يُخَاطِبَهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِتَفُوزَ بِشَرَفِ الْمُخَاطَبَةِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ الْمَعْدُومِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ، نَحْوُ: يَا بَنِي آدَمَ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِكُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: خِطَابُ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِسْمٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِغَيْرِهِ، وَقِسْمٌ لَهُمَا.
فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ الْقَيِّم: تَأْمَّلْ خِطَابَ الْقُرْآنِ تَجِدْ مَلِكًا لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا مِنْهُ وَمَوْرِدُهَا إِلَيْهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، عَالِمًا بِمَا فِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، يَسْمَعُ وَيَرَى وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُقَدِّرُ وَيَقْضِي وَيُدَبِّرُ الْأُمُورَ نَازِلَةً مِنْ عِنْدِهِ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا وَصَاعِدَةً إِلَيْهِ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ. فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُهُ يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيُمَجِّدُ نَفْسَهُ، وَيَحْمَدُ نَفْسَهُ، وَيَنْصَحُ عِبَادَهُ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ، يُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ تَمَامَهَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مَنْ نِقَمِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِنْ أَطَاعُوهُ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِنْ عَصَوْهُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصُنْعِهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَنِ أَوْصَافِهِمْ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِمْ، وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَيُنَوِّعُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ أَعْدَائِهِ أَحْسَنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيُصَدِّقُ الصَّادِقَ، وَيَكْذِّبُ الْكَاذِبَ، وَيَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ وَيَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهَا وَحُسْنَهَا وَنَعِيمَهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَيَذْكُرُ عَذَابَهَا وَقُبْحَهَا وَآلَامَهَا، وَيُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ وَشَدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُذَكِّرُهُمْ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَشْهَدُ مِنْ خِطَابِهِ عِتَابَهُ لِأَحْبَابِهِ أَلْطَفَ عِتَابٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُقِيلٌ عَثَرَاتِهِمْ، وَغَافِرٌ ذِلَّاتِهِمْ وَمُقِيمٌ أَعْذَارَهُمْ وَمُصْلِحٌ فَسَادَهُمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ وَالْمُحَامِي عَنْهُمْ، وَالنَّاصِرُ لَهُمْ وَالْكَفِيلُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُنَجِّي لَهُمْ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَالْمُوَفِّي لَهُمْ بِوَعْدِهِ، وَأَنَّهُ وَلِيُّهُمُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمْ سِوَاهُ، فَهُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدْوِّهِمْ فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنَعِمَ النَّصِيرُ. وَإِذَا شَهِدَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْقُرْآنِ مَلِكًا عَظِيمًا، جَوَادًا رَحِيمًا جَمِيلًا، هَذَا شَأْنُهُ فَكَيْفَ لَا تُحِبُّهُ وَتُنَافِسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتُنْفِقُ أَنْفَاسَهَا فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا مَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَرِضَاهُ آثَرَ عِنْدَهَا مِنْ رِضَا كُلِّ مَنْ سِوَاهُ! وَكَيْفَ لَا تَلْهَجُ بِذِكْرِهِ وَتُصَيِّرُ حُبَّهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ وَالْأُنْسَ بِهِ هُوَ غِذَاؤُهَا وَقُوَّتُهَا وَدَوَاؤُهَا، بِحَيْثُ إِنْ فَقَدَتْ ذَلِكَ فَسَدَتْ وَهَلَكَتْ وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهَا.
فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُ الْأَقْدَمِينَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثِينَ، نَحْوًا، كُلُّ نَحْوٍ مِنْهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، فَمَنْ عَرَفَ وُجُوهَهَا ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ أَصَابَ وَوُفِّقَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ كَانَ الْخَطَأُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، وَهِيَ: الْمَكِّيُّ وَالْمَدَنِيُّ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَالْمَقْطُوعُ وَالْمَوْصُولُ، وَالسَّبَبُ وَالْإِضْمَارُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ، وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالْأُبَّهَةُ، وَالْحُرُوفُ الْمُصَرَّفَةُ، وَالْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَالْحُجَّةُ وَالِاحْتِجَاجُ، وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ وَالْقَسَمُ. قَالَ: فَالْمَكِّيُّ مِثْلُ: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 10]، وَالْمَدَنِيُّ مِثْلُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 190]، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَاضِحٌ. وَالْمُحْكَمُ مِثْلُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الْآيَةَ [النِّسَاء: 93]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاء: 10]، وَنَحْوُهُ مِمَّا أَحْكَمَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ. وَالْمُتَشَابِهُ مِثْلُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الْآيَةَ [النُّور: 27]، وَلَمْ يَقُلْ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النِّسَاء: 30]، كَمَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ، وَقَدْ نَادَاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا وَعِيدًا فَاشْتَبَهَ عَلَى أَهْلِهَا مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِثْلُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [الْبَقَرَة: 180]، التَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. وَالْمَقْطُوعُ وَالْمَوْصُولُ مِثْلُ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَة: 1]، فَ(لَا) مَقْطُوعٌ مِنْ أُقْسِمُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [الْقِيَامَة: 2]، وَلَمْ يُقْسِمْ. وَالسَّبَبُ وَالْإِضْمَارُ مِثْلُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]؛ أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ مِثْلُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ فَهَذَا فِي الْمَسْمُوعِ خَاصٌّ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]، فَصَارَ فِي الْمَعْنَى عَامًّا. وَالْأَمْرُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ أَمْثِلَتُهَا وَاضِحَةٌ. وَالْأُبَّهَةُ مِثْلُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا} [نُوحٍ: 1]، {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزُّخْرُف: 32]، عَبَّرَ بِالصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ تَعَالَى تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا وَأُبَّهَةً. وَالْحُرُوفُ الْمُصَرَفَةُ كَالْفِتْنَةِ تُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ، نَحْوُ: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الْبَقَرَة: 193]. وَعَلَى الْمَعْذِرَةِ، نَحْوُ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الْأَنْعَام: 23]؛ أَيْ: مَعْذِرَتُهُمْ. وَعَلَى الِاخْتِبَارِ، نَحْو: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طَه: 85]. وَالِاعْتِذَارُ، نَحْو: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [الْمَائِدَة: 13]. اعْتَذَرَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِمْ. وَالْبَوَاقِي أَمْثِلَتُهَا وَاضِحَةٌ.
لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الْحَقَائِقِ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ كُلُّ لَفْظٍ بَقِيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ وَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ وَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهِ فِيهِ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ وَابْنُ الْقَاصِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمَجَازَ أَخُو الْكَذِبِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ شُبْهَةٌ بَاطِلَةٌ وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنَ الْقُرْآنِ سَقَطَ مِنْهُ شَطْرُ الْحُسَنِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْبُلَغَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَجَازِ وَجَبَ خُلُوُّهُ مِنَ الْحَذْفِ وَالتَّوْكِيدِ وَتَثَنِيَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَلَخَّصْتُهُ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابٍ سَمَّيْتُهُ: مَجَازُ الْفُرْسَانِ إِلَى مَجَازِ الْقُرْآنِ
وَهُوَ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ، وَيُسَمَّى مَجَازُ الْإِسْنَادِ، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ وَعَلَاقَتُهُ الْمُلَابَسَةُ وَذَلِكَ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ أَوْ شَبَهُهُ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ أَصَالَةً لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الْأَنْفَال: 2]، نُسِبَتِ الزِّيَادَةُ- وَهِيَ فِعْلُ اللَّهِ- إِلَى الْآيَاتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لَهَا {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [الْقَصَص: 4]. {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي} [غَافِرٍ: 36]. نُسِبَ الذَّبْحُ وَهُوَ فِعْلُ الْأَعْوَانِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَالْبِنَاءُ وَهُوَ فِعْلُ الْعَمَلَةِ إِلَى هَامَانَ لِكَوْنِهِمَا آمِرِينَ بِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 28]، نُسِبَ الْإِحْلَالُ إِلَيْهِمْ لِتَسَبُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِأَمْرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [الْمُزَّمِّل: 17]، نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ. {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 21]؛ أَيْ: مَرْضِيَّةٍ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [مُحَمَّدٍ: 21]؛ أَيْ: عُزِمَ عَلَيْهِ، بِدَلِيل: {فَإِذَا عَزَمْتَ} [آلِ عِمْرَانَ: 159]. وَهَذَا الْقِسْمُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا طَرَفَاهُ حَقِيقِيَّانِ كَالْآيَةِ الْمُصَدَّرِ بِهَا، وَكَقَوْلِه: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَة: 2]. ثَانِيهَا: مَجَازِيَّانِ، نَحْو: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]؛ أَيْ: مَا رَبِحُوا فِيهَا، وَإِطْلَاقُ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ هُنَا مَجَازٌ. ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: مَا أَحَدُ طَرَفَيْهِ حَقِيقِيٌّ دُونَ الْآخَرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فَكَقَوْلِه: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} [الرُّوم: 35]؛ أَيْ: بُرْهَانًا {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو} [الْمَعَارِج: 15، 16، 17]، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنَ النَّارِ مَجَازٌ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [مُحَمَّدٍ: 4]. {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 25]، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [الْقَارِعَة: 9]، وَاسْمُ الْأُمِّ الْهَاوِيَةُ مَجَازٌ، أَيْ: كَمَا أَنَّ الْأُمَّ كَافِلَةٌ لِوَلَدِهَا وَمَلْجَأٌ لَهُ، كَذَلِكَ النَّارُ لِلْكَافِرِينَ كَافِلَةٌ وَمَأْوًى وَمَرْجِعٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ، وَيُسَمَّى الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ. أَحَدُهَا: الْحَذْفُ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي نَوْعِ الْإِيجَازِ، فَهُوَ بِهِ أَجْدَرُ خُصُوصًا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعٍ الْمَجَازِ. الثَّانِي: الزِّيَادَةُ وَسَبْقُ تَحْرِيرِ الْقَوْلِ فِيهَا فِي نَوْعِ الْإِعْرَابِ. الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، نَحْو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [الْبَقَرَة: 19]؛ أَيْ: أَنَامِلُهُمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْأَصَابِعِ الْإِشَارَةُ إِلَى إِدْخَالِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مُبَالَغَةً مِنَ الْفِرَارِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصَابِعَ، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [الْمُنَافِقُونَ: 4]؛ أَيْ: وُجُوهُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ جُمْلَتَهُمْ. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَة: 158] أَطْلَقَ الشَّهْرَ وَهُوَ اسْمُ الثَّلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَرَادَ جُزْءًا مِنْهُ، كَذَا أَجَابَ بِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنِ اسْتِشْكَالِ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّهْرَ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ حَقِيقَةً، فَكَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ عَلَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ، وَإِنْ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْحَذْفِ. الرَّابِعُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرَّحْمَن: 27]؛ أَيْ: ذَاتُهُ {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [الْبَقَرَة: 144]؛ أَيْ: ذَوَاتُكُمْ إِذِ الِاسْتِقْبَالُ يَجِبُ بِالصَّدْرِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الْغَاشِيَة: 8]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الْغَاشِيَة: 2، 3]، عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْسَادِ؛ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ وَالنَّصْبَ حَاصِلٌ بِكُلِّهَا {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الْحَجّ: 10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30]؛ أَيْ: قَدَّمْتَ وَكَسَبْتُمْ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْأَيْدِي لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا {قُمِ اللَّيْلَ} [الْمُزَّمِّل: 2]، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الْإِسْرَاء: 78]، {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [الْبَقَرَة: 43]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الْإِنْسَان: 26]، أَطْلَقَ كُلًّا مِنَ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ بَعْضُهَا {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [الْمَائِدَة: 95]؛ أَي: الْحَرَمِ كُلِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِيهَا. تَنْبِيهٌ: أُلْحِقَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: وَصْفُ الْبَعْضِ بِصِفَةِ الْكُلِّ كَقَوْلِه: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [الْعَلَق: 16]، فَالْخَطَأُ صِفَةُ الْكُلِّ وُصِفَ بِهِ النَّاصِيَةُ، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِه: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الْحِجْر: 52]، وَالْوَجَلُ صِفَةُ الْقَلْبِ {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الْكَهْف: 18]، وَالرُّعْبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ. وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ لَفْظِ بَعْضٍ مُرَادًا بِهِ الْكُلُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قوله: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزُّخْرُف: 63]؛ أَيْ: كُلَّهُ {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غَافِرٍ: 28]، وَتُعُقِّبُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ بَيَانُ كُلِّ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، بِدَلِيلِ السَّاعَةِ وَالرُّوحِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِأَنَّ مُوسَى كَانَ وَعَدَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُصِبْكُمْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعْضُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ نَفْيِ عَذَابِ الْآخِرَةِ. ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَعِيدَ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ تَرْكُ جَمِيعِهِ، فَكَيْفَ بَعْضُهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ثَعْلَبٌ قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [يُونُسَ: 46]. الْخَامِسُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، نَحْو: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 16]؛ أَيْ: رُسُلُهُ. السَّادِسُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5]؛ أَي: الِمُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غَافِرٍ: 7]. السَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ الثَّامِنُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الْمَائِدَة: 112]؛ أَيْ: هَلْ يَفْعَلُ؟ أَطْلَقَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُ. التَّاسِعُ: إِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، نَحْو: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غَافِرٍ: 13]، {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الْأَعْرَاف: 26]؛ أَيْ: مَطَرًا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الرِّزْقُ وَاللِّبَاسُ، لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا [النُّور: 33]؛ أَيْ: مُؤْنَةً مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْهُ. الْعَاشِرُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هُودٍ: 20]؛ أَي: الْقَبُولَ وَالْعَمَلَ بِهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ السَّمْعِ. تَنْبِيهٌ: مِنْ ذَلِكَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِ السَّبَبِ كَقَوْلِه: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 36]، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الْأَعْرَاف: 27]، فَإِنَّ الْمُخْرِجَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُ ذَلِكَ أَكْلُ الشَّجَرَةِ، وَسَبَبُ الْأَكْلِ وَسُوسَةُ الشَّيْطَانِ. الْحَادِي عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، نَحْو: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النِّسَاء: 2]؛ أَي: الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 232]؛ أَيْ: الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طَه: 74]، سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِجْرَامِ. الثَّانِي عَشَرَ: تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، نَحْو: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يُوسُفَ: 36]؛ أَيْ: عِنَبًا يَؤُولُ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ} [نُوحٍ: 27]؛ أَيْ: صَائِرًا إِلَى الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ} حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَة: 230]، سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصَّافَّات: 101]، {نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الْحِجْر: 53]، وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ، نَحْو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 107]؛ أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سَبَإٍ: 33]؛ أَيْ: فِي اللَّيْلِ {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} [الْأَنْفَال: 33]؛ أَيْ: فِي عَيْنَيْكَ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَكْسُهُ، نَحْو: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [الْعَلَق: 17]؛ أَيْ: أَهْلَ نَادِيهِ، أَيْ: مَجْلِسَهُ، وَمِنْهُ التَّعْبِيرُ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ، نَحْو: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الْمُلْك: 1]، وَبِالْقَلْبِ عَنِ الْعَقْلِ، نَحْو: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الْأَعْرَاف: 179]؛ أَيْ: عُقُولٌ. وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ، نَحْو: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 167]، وَبِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِيهَا، نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]، وَقَدِ اجْتَمَعَ هَذَا النَّوْعُ وَمَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الْأَعْرَاف: 31]، فَإِنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، فَالْمُرَادُ مَحَلُّهَا، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْحَالِّ، وَأَخُذُهَا لِلْمَسْجِدِ نَفْسُهُ لَا يَجِبُ، فَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ. الْخَامِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ آلَتِهِ، نَحْو: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشُّعَرَاء: 84]؛ أَيْ: ثَنَاءً حَسَنًا؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ آلَتُهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 4]؛ أَيْ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمٍ ضِدِّهِ، نَحْو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 21]، وَالْبِشَارَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَبَرِ السَّارِّ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفُ عَنْهُ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الْأَعْرَاف: 12]، يَعْنِي: مَا دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ؟ وَسَلِمَ بِذَلِكَ مِنْ دَعْوَى زِيَادَةِ (لَا). السَّابِعَ عَشَرَ: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَشْبِيهًا، نَحْو: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الْكَهْف: 77]، وَصَفَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ تَشْبِيهًا لِمَيْلِهِ لِلْوُقُوعِ بِإَرَادَتُهُ. الثَّامِنَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ مُشَارَفَتُهُ وَمُقَارَبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، نَحْو: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطَّلَاق: 2]؛ أَيْ: قَارَبْنَ بُلُوغَ الْأَجَل: أَي: انِقِضَاءَ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ فِي قَوْلِه: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [الْبَقَرَة: 232]، حَقِيقَةً. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الْأَعْرَاف: 34]؛ أَيْ: فَإِذَا قَرُبَ مَجِيئُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 9]؛ أَيْ: لَوْ قَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا خَافُوا؛ لَأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَهُ أَمْوَاتٌ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [الْمَائِدَة: 6]؛ أَيْ: أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النَّحْل: 98]؛ أَيْ: أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِتَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَهَا {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الْأَعْرَاف: 4]؛ أَيْ: أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الْكَهْف: 17]؛ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. التَّاسِعَ عَشَرَ: الْقَلْبُ إِمَّا قَلْبُ إِسْنَادٍ، نَحْو: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [الْقَصَص: 76]؛ أَيْ: لَتَنُوءُ الْعُصْبَةُ بِهَا {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرَّعْد: 38]؛ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [الْقَصَص: 12]؛ أَيْ: حَرَّمْنَاهُ عَلَى الْمَرَاضِعِ {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَحْقَاف: 20]؛ أَيْ: تُعْرَضُ النَّارُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي لَهُ الِاخْتِيَارُ {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَّات: 8]؛ أَيْ: وَإِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} [يُونُسَ: 107]؛ أَيْ: يُرِدْ بِكَ الْخَيِّرَ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [الْبَقَرَة: 37]؛ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ حَقِيقَةً هُوَ آدَمُ كَمَا قُرِئَ بِذَلِكَ أَيْضًا. أَوْ قَلْبُ عَطْفٍ، نَحْوُ: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ} [النَّمْل: 28]؛ أَيْ: فَانْظُرْ ثُمَّ تَوَلَّ} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْم: 8]؛ أَيْ: تَدَلَّى فَدَنَا لِأَنَّهُ بِالتَّدَلِّي مَالَ إِلَى الدُّنُوِّ. أَوْ قَلْبُ تَشْبِيهٍ وَسَيَأْتِي فِي نَوْعِهِ. الْعِشْرُونَ: إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى وَتَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: إِطْلَاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ، نَحْو: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشُّعَرَاء: 77]، وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ، نَحْو: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [الْبَقَرَة: 255]؛ أَيْ: مِنْ مَعْلُومِهِ، {صُنْعَ اللَّهِ} [النَّمْل: 88]؛ أَيْ: مَصْنُوعَهُ {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يُوسُفَ: 18]؛ أَيْ: مَكْذُوبٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْبُشْرَى عَلَى الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَالْهَوَى عَلَى الْمَهْوِيِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى الْمَقُولِ. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عَلَى الْمَصْدَرِ، نَحْو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الْوَاقِعَة: 2]؛ أَيْ: تَكْذِيبٌ {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [الْقَلَم: 6]؛ أَي: الِفِتْنَةُ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ غَيْرُ زَائِدَةٍ. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ فَاعِلٍ عَلَى مَفْعُولٍ، نَحْو: {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطَّارِق: 6]؛ أَيْ: مَدْفُوقٍ، {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هُودٍ: 43]؛ أَيْ: لَا مَعْصُومَ {جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [الْعَنْكَبُوت: 67]؛ أَيْ: مَأْمُونًا فِيهِ. وَعَكْسُهُ، نَحْو: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مَرْيَمَ: 61]؛ أَيْ: آتِيًا {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاء: 45]؛ أَيْ: سَاتِرًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ؛ أَيْ: مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ لَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ (فَعِيلٍ) بِمَعْنَى (مَفْعُولٍ)، نَحْو: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الْفُرْقَان: 55]، وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى آخَرَ مِنْهَا. مِنْهَا: مِثَالُ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُثَنَّى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التَّوْبَة: 62]؛ أَيْ: يُرْضُوهُمَا فَأُفْرِدَ لِتَلَازُمِ الرِّضَاءَيْنِ. وَعَلَى الْجَمْعِ، نَحْو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [الْعَصْر: 2]؛ أَي: الِأَنَاسِيَّ، بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [الْمَعَارِج: 19]، بَدَلِيل: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [الْمَعَارِج: 22]. وَمِثَالُ إِطْلَاقِ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُفْرَد: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]؛ أَيْ: أَلْقِ. وَمِنْهُ كُلُّ فِعْلٍ نُسِبَ إِلَى شَيْئَيْنِ وَهُوَ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ، نَحْو: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَن: 22]، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ دُونَ الْعَذْبِ، وَنَظِيرُهُ {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فَاطِرٍ: 12]، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمِلْحِ {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نُوحٍ: 16]؛ أَيْ: فِي إِحْدَاهُنَّ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الْكَهْف: 61]، وَالنَّاسِي يُوشَعُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِمُوسَى {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الْكَهْف: 63]، وَإِنَّمَا أُضِيفَ النِّسْيَانُ إِلَيْهِمَا مَعًا لِسُكُوتِ مُوسَى عَنْهُ {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [الْبَقَرَة: 203]، وَالتَّعْجِيلُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي} عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخْرُف: 31]، قَالَ الْفَارِسِيُّ؛ أَيْ: مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ. وَلَيْسَ مِنْهُ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46]، وَأَنَّ الْمَعْنَى جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَفِي كِتَابِ ذَا الْقَدِّ لِابْنِ جِنِّي: أَنَّ مِنْهُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [الْمَائِدَة: 116]، وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ مَرْيَمَ. وَمِثَالُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْع: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الْمُلْك: 4]؛ أَيْ: كَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِهَا، وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَة: 229]. وَمِثَالُ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُفْرَدِ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99]؛ أَيْ: أَرْجِعْنِي. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35]، وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ بِدَلِيل: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النَّمْل: 37]، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَاطَبَ رَئِيسَهُمْ لَاسِيَّمَا وَعَادَةُ الْمُلُوكِ جَارِيَةٌ أَنْ لَا يُرْسِلُوا وَاحِدًا. وَجَعَلَ مِنْهُ {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آلِ عِمْرَانَ: 39]، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} [النَّحْل: 2]؛ أَيْ: جِبْرِيلَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 72] وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ. وَمِثَالُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصِّلَتْ: 11]، {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 32]، {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11]؛ أَيْ: أَخَوَانِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيم: 4]؛ أَيْ: قَلْبَاكُمَا {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى قَوْلِه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 78]. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، نَحْو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْل: 1]؛ أَي: السَّاعَةُ، بِدَلِيل: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْل: 1]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الزُّمَر: 68]، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 116]، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إِبْرَاهِيمَ: 21]، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الْأَعْرَاف: 48]. وَعَكْسُهُ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ وَاسْتَمَرَّ، نَحْو: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ} [الْبَقَرَة: 44]. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [الْبَقَرَة: 102]؛ أَيْ: تَلَتْ، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} [النَّحْل: 103]؛ أَيْ: عَلِمْنَا، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النُّور: 64]؛ أَيْ: عَلِمَ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 91]؛ أَيْ: قَتَلْتُمْ وَكَذَا فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [الْبَقَرَة: 87]، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرَّعْد: 43]؛ أَيْ: قَالُوا. وَمِنْ لَوَاحِقَ ذَلِكَ: التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، نَحْو: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذَّارِيَات: 6]، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هُودٍ: 103]، وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ عَلَى الطَّلَبِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ دُعَاءً مُبَالِغَةً فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ وَأَخْبَرَ عَنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وُرُودُ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَأُخْبِرَ عَنْهُ، نَحْو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [الْبَقَرَة: 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: 197]، عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 272]؛ أَيْ: لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]؛ أَيْ: لَا يَمَسُّهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الْبَقَرَة: 83]؛ أَيْ: لَا تَعْبُدُوا، بِدَلِيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [الْبَقَرَة: 83]، {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يُوسُفَ: 92]؛ أَي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ. وَعَكْسُهُ، نَحْو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مَرْيَمَ: 75]؛ أَيْ: يَمُدُّ {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [الْعَنْكَبُوت: 12]؛ أَيْ: وَنَحْنُ حَامِلُونَ بِدَلِيل: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْعَنْكَبُوت: 12]، وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82]. قَالَ الْكَوَاشِيُّ: فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلَغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ، نَحْوُ: إِنْ زُرْتَنَا فَلْنُكْرِمْكَ، يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَام: لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ، فَشُبِّهَ الْخَبَرُ بِهِ فِي إِيجَابِهِ. وَمِنْهَا: وَضَعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ، نَحْو: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْه: هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى، وَإِنَّمَا يُنَادَى الْأَشْخَاصُ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ. وَمِنْهَا: وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةَ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ، نَحْو: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سَبَإٍ: 37]، وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الْأَنْفَال: 4]، وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشَرَةِ لَا مَحَالَةَ. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزُّمَر: 42]، {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [الْبَقَرَة: 184]، وَنُكْتَةُ التَّقْلِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّسْهِيلُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ. وَعَكْسُهُ، نَحْو: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَة: 228]. وَمِنْهَا: تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِمُذَكَّرٍ، نَحْو: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الْبَقَرَة: 275]؛ أَيْ: وُعِظَ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11]، عَلَى تَأْوِيلِ الْبَلْدَةِ بِالْمَكَانِ {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الْأَنْعَام: 78]؛ أَي: الشَّمْسُ أَوِ الطَّالِعُ {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الْأَعْرَاف: 56]، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذُكِرَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي قَوْلِه: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هُودٍ: 118، 119]، إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلرَّحْمَةِ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ (وَلِتِلْكَ)؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْوِيلِ (أَنْ يَرْحَمَ). وَمِنْهَا: تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ، نَحْو: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 11]، أَنَّثَ الْفِرْدَوْسَ وَهُوَ مُذَكَّرٌ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَنَّةِ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَام: 160]، أَنَّثَ عَشْرًا حَيْثُ حَذَفَ الْهَاءَ مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْأَمْثَالِ وَوَاحِدُهَا مُذَكِّرٌ فَقِيلَ لِإِضَافَةِ الْأَمْثَالِ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَاتِ فَاكْتَسَبَ مِنْهُ التَّأْنِيثَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْأَمْثَالَ فِي الْمَعْنَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهُا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْقَوَاعِدِ الْمُهِمَّةِ قَاعِدَةً فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. وَمِنْهَا: التَّغْلِيبُ وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حُكْمَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى الْآخَرِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِهِ عَلَيْهِمَا إِجْرَاءً لِلْمُخْتَلِفِينَ مَجْرَى الْمُتَّفِقِينَ، نَحْو: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التَّحْرِيم: 12]، {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الْأَعْرَاف: 83]، وَالْأَصْلُ: مِنَ (الْقَانِتَاتِ) وَ(الْغَابِرَاتِ)، فَعُدَّتِ الْأُنْثَى مِنَ الْمُذَكِّرِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النَّمْل: 55]، أَتَى بِتَاءِ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ (أَنْتُمْ) عَلَى جَانِبِ (قَوْمٌ). وَالْقِيَاسُ أَنْ يُؤْتَى بِيَاءِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِـ (قَوْمٌ)، وَحَسَّنَ الْعُدُولَ عَنْهُ وُقُوعُ الْمَوْصُوفِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الْإِسْرَاء: 63]، غَلَبَ فِي الضَّمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ كَانَ مَنْ تَبِعَكَ يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ، وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَائِبُ تَبَعًا لِلْمُخَاطِبِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ جُعِلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا وَهَوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النَّحْل: 49]، غَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ حَيْثُ أَتَى بِـ (مَا) لِكَثْرَتِهِ. وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بِـ (مِنْ)، فَغَلَّبَ الْعَاقِلَ لِشَرَفِهِ. {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الْأَعْرَاف: 88]، أَدْخَلَ شُعَيْبٌ فِي (لَتَعُودُنَّ) بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ فِيهَا. وَكَذَا قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الْأَعْرَاف: 89]، {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الْحِجْر: 30، 31]، عُدَّ مِنْهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزُّخْرُف: 38]؛ أَي: الِمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيّ: وَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرَّحْمَن: 19]؛ أَي: الِمِلْحِ وَالْعَذْبِ. وَالْبَحْرُ خَاصٌّ بِالْمِلْحِ فَغُلِّبَ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} [الْأَنْعَام: 132] أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالدَّرَجَاتُ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتُ لِلسُّفْلِ فَاسْتَعْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْأَشْرَفِ. قَالَ فِي الْبُرْهَان: وَإِنَّمَا كَانَ التَّغْلِيبُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ (الْقَانِتِينَ) مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِطْلَاقٌ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَكَذَا بَاقِي الْأَمْثِلَةِ. وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُ حُرُوفِ الْجَرِّ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَرْبَعِينَ. وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ (افْعَلْ) لِغَيْرِ الْوُجُوبِ وَصِيغَةِ (لَا تَفْعَلْ) لِغَيْرِ التَّحْرِيمِ، وَأَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ لِغَيْرِ طَلَبِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَأَدَاةُ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالنِّدَاءِ لِغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي كُلُّ ذَلِكَ فِي الْإِنْشَاءِ. وَمِنْهَا: التَّضْمِينُ وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ، وَيَكُونُ فِي الْحُرُوفِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ. أَمَّا الْحُرُوفُ فَتَقَدَّمَ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ: فَأَنْ يُضَمَّنَ فِعْلٌ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مَعًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْحَرْفِ لِيَصِحَّ التَّعَدِّي بِهِ، وَالْأَوَّلُ تَضْمِينُ الْفِعْلِ وَالثَّانِي تَضْمِينُ الْحَرْفِ. وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى، فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَقَوْمٌ مِنَ النُّحَاة: التَّوَسُّعُ فِي الْحَرْفِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: التَّوَسُّعُ فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهُ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ مِثَالُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الْإِنْسَان: 6]، فَيَشْرَبُ إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِمِنْ فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ إِمَّا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى (يُرْوَى) أَوْ (يَلْتَذُّ) أَوْ تَضْمِينِ الْبَاءِ مَعْنَى (مِنْ). {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]، فَالرَّفَثُ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى إِلَّا عَلَى تَضَمُّنِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النَّازِعَات: 18]، وَالْأَصْلُ فِي أَنْ ضُمِّنَ مَعْنَى (أَدْعُوكَ). {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشُّورَى: 25]، عُدِّيَتْ بِعَنْ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ، فَأَنْ يُضَمَّنَ اسْمٌ مَعْنَى اسْمٍ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ مَعًا، نَحْو: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الْأَعْرَاف: 105]، ضُمِّنَ (حَقِيقٌ) مَعْنَى (حَرِيصٌ) لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ التَّضْمِينُ مَجَازًا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ.
وَهِيَ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: الْحَذْفُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنَ الْمَجَازِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْمَجَازَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَالْحَذْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عَيْنُ الْمَجَازِ وَمُعْظَمُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مَجَازًا. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَذْفُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ، نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]؛ أَيْ: أَهْلَهَا؛ إِذْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُ السُّؤَالِ إِلَيْهَا. وَقِسْمٌ يَصِحُّ بِدُونِهِ لَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ شَرْعًا كَقَوْلِه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [الْبَقَرَة: 184]؛ أَيْ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ. وَقِسْمٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عَادَةً لَا شَرْعًا، نَحْو: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشُّعَرَاء: 63]؛ أَيْ: فَضَرَبَهُ. وَقِسْمٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ وَلَا هُوَ عَادَةً، نَحْو: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طَه: 96]، دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قَبَضَ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَجَازٌ إِلَّا الْأَوَّلَ. وَقَالَ الزَّنْجَانِيُّ فِي الْمِعْيَار: إِنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ حُكْمٌ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ كَحَذْفِ خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ الْمَعْطُوفِ عَلَى جُمْلَةٍ فَلَيْسَ مَجَازًا، إِذْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي الْإِيضَاح: مَتَى تَغَيَّرَ إِعْرَابُ الْكَلِمَةِ بِحَذْفٍ أَوْ زِيَادَةٍ فَهِيَ مَجَازٌ، نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 110]، فَإِنْ كَانَ الْحَذْفُ أَوِ الزِّيَادَةُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْإِعْرَابِ، نَحْو: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [الْبَقَرَة: 19]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 159]، فَلَا تُوصَفُ الْكَلِمَةُ بِالْمَجَازِ. الثَّانِي: التَّأْكِيدُ، زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ فِي الْعُمْدَة: وَمَنْ سَمَّاهُ مَجَازًا قُلْنَا لَهُ: إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ، نَحْوُ: (عَجِّلْ عَجِّلْ) وَنَحْوِهِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بِطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: التَّشْبِيهُ، زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. قَالَ الزَّنْجَانِيُّ فِي الْمِعْيَار: لِأَنَّهُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَلَهُ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا فَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّين: إِنْ كَانَ بِحَرْفٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ بِحَذْفِهِ فَمَجَازٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. الرَّابِعُ: الْكِنَايَةُ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَام: وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَأُرِيدَ بِهَا الدِّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَجَازٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ لِمَنْعِهِ فِي الْمَجَازِ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مَعَ الْمَجَازِيِّ وَتَجْوِيزُهُ ذَلِكَ فِيهَا. الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، فَإِنِ اسْتَعْمَلْتَ اللَّفْظَ فِي مَعْنَاهُ مُرَادًا مِنْهُ لَازِمَ الْمَعْنَى أَيْضًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَعْنَى بَلْ عَبَّرَ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ فَهُوَ مَجَازٌ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مِنْهَا أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِيُفِيدَ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ مِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ مَوْضُوعِهِ اسْتِعْمَالًا وَإِفَادَةً. الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، عَدَّهُ قَوْمٌ مِنَ الْمَجَازِ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ كَالْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرَ مَا رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ كَالْفَاعِلِ نَقْلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَرْتَبَتِهِ وَحَقِّهِ. قَالَ فِي الْبُرْهَان: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَجَازَ نَقْلُ مَا وُضِعَ إِلَى مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ. السَّادِسُ: الِالْتِفَاتُ: قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ قَالَ: وَهُوَ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَجْرِيدٌ. فَصْلٌ فِيمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ بِاعْتِبَارَيْنِ. هُوَ الْمَوْضُوعَاتُ الشَّرْعِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّهَا حَقَائِقُ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّرْعِ مَجَازَاتٌ بِالنَّظَرِ إِلَى اللُّغَةِ.
قِيلَ بِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: اللَّفْظُ قَبْلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مَفْقُودٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوَائِلُ السُّورِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ. ثَانِيًا: الْأَعْلَامُ. ثَالِثُهَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْمُشَاكَلَةِ، نَحْو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40]، ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ، فَلَيْسَ حَقِيقَةً، وَلَا عَلَاقَةً مُعْتَبَرَةً فَلَيْسَ مَجَازًا، كَذَا فِي شَرْحِ بَدِيعِيَّةِ ابْنِ جَابِرٍ لِرَفِيقِهِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَجَازٌ وَالْعَلَاقَةُ الْمُصَاحَبَةُ. خَاتِمَةٌ: لَهُمْ مَجَازُ الْمَجَازِ، الْمُرَادُ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَجَازَ الْمَأْخُوذَ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجَازٍ آخَرَ، فَيَتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [الْبَقَرَة: 235]، فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ، فَإِنَّ الْوَطْءَ تُجَوِّزُ عَنْهُ بِالسِّرِّ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا فِي السِّرِّ، وَتُجَوِّزُ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، فَالْمُصَحِّحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازِمَةُ، وَالثَّانِي السَّبَبِيَّةُ، وَالْمَعْنَى: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ. وَكَذَا قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [الْمَائِدَة: 5]، فَإِنَّ قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35] مَجَازٌ عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالْعَلَاقَةُ السَّبَبِيَّةُ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْجَنَانِ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْقَوْلِ عَنِ الْمَقُولِ فِيهِ. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ السَّيِّدِ قَوْلَهُ: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الْأَعْرَاف: 26]، فَإِنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ اللِّبَاسِ، بَلِ الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ الْغَزَلُ الْمَنْسُوجُ مِنْهُ اللِّبَاسُ.
|