الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِه: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَ سُوَرَ الْقُرْآنِ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا. الْأَوَّلُ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءُ قِسْمَان: إِثْبَاتٌ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ، وَنَفْيٌ وَتَنْزِيهٌ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ. فَالْأَوَّلُ: التَّحْمِيدُ فِي خَمْسِ سُوَرٍ، وَتَبَارَكَ فِي سُورَتَيْنِ. وَالثَّانِي: التَّسْبِيحُ فِي سَبْعٍ سُوَرٍ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي مُتَشَابِهِ الْقُرْآن: التَّسْبِيحُ كَلِمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا، فَبَدَأَ بِالْمَصْدَرِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، ثُمَّ بِالْمَاضِي فِي الْحَدِيدِ وَالْحَشْرِ، لِأَنَّهُ أَسْبَقُ الزَّمَانَيْنِ ثُمَّ بِالْمُضَارِعِ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، ثُمَّ بِالْأَمْرِ فِي الْأَعْلَى اسْتِيعَابًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِهَا. الثَّانِي: حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْعَبًا فِي نَوْعِ الْمُتَشَابِهِ، وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِمُنَاسَبَاتِهَا فِي نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ. الثَّالِثُ: النِّدَاءُ فِي عَشْرِ سُوَرٍ: خَمْسٌ بِنِدَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَحْزَابُ وَالطَّلَاقُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ، وَخَمْسٌ بِنِدَاءِ الْأُمَّة: النِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْحَجُّ، وَالْحُجُرَاتُ، وَالْمُمْتَحَنَةُ. الرَّابِعُ: الْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ نَحْوَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الْأَنْفَالِ]. {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ]. {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْلِ]. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ]. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ]. {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النُّورِ]. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، {الَّذِينَ كَفَرُوا} [مُحَمَّدٍ]. {إِنَّا فَتَحْنَا} [الْفَتْحِ]. {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [الْقَمَرِ]. {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ} [الرَّحْمَنِ]. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [الْمُجَادَلَةِ]. {الْحَاقَّةُ}، {سَأَلَ سَائِلٌ} [الْمَعَارِجِ]. {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نُوحٍ]. {لَا أُقْسِمُ} فِي مَوْضِعَيْنِ [الْقِيَامَةِ، وَالْبَلَدِ]. {عَبَسَ}، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [الْقَدْرِ]. {لَمْ يَكُنْ}، {الْقَارِعَةِ}، {أَلْهَاكُمُ} [التَّكَاثُرِ]. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} [الْكَوْثَرِ]. فَتِلْكَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً. الْخَامِسُ: الْقَسَمُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً. سُورَةٌ أَقْسَمَ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ وَهِيَ {وَالصَّافَّاتِ}. وَسُورَتَانِ بِالْأَفْلَاك: الْبُرُوجُ وَالطَّارِقُ. وَسِتُّ سُوَرٍ بِلَوَازِمِهَا: فَالنَّجْمُ قَسَمٌ بِالثُّرَيَّا، وَالْفَجْرُ بِمَبْدَأِ النَّهَارِ، وَالشَّمْسُ بِآيَةِ النَّهَارِ، وَاللَّيْلُ بِشَطْرِ الزَّمَانِ، وَالضُّحَى بِشَطْرِ النَّهَارِ، وَالْعَصْرِ بِالشَّطْرِ الْآخَرِ، أَوْ بِجُمْلَةِ الزَّمَانِ. وَسُورَتَانِ بِالْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْعَنَاصِرِ، وَالذَّارِيَاتِ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَسُورَةٌ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهَا أَيْضًا، وَهِيَ الطُّورُ، وَسُورَةٌ بِالنَّبَاتِ، وَهِيَ وَالتِّينِ، وَسُورَةٌ بِالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ، وَهِيَ وَالنَّازِعَاتِ، وَسُورَةٌ بِالْبَهِيمِ وَهِيَ وَالْعَادِيَاتِ. السَّادِسُ: الشَّرْطُ فِي سَبْعِ سُوَرٍ: الْوَاقِعَةُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّكْوِيرُ وَالِانْفِطَارُ وَالِانْشِقَاقُ وَالزَّلْزَلَةُ وَالنَّصْرُ. السَّابِعُ: الْأَمْرُ فِي سِتٍّ سُوَرٍ: {قُلْ أُوحِيَ}، {اقْرَأْ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ} الْمُعَوِّذَتَيْنِ. الثَّامِنُ: الِاسْتِفْهَامُ فِي سِتِّ سُوَرٍ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، {هَلْ أَتَى}، {هَلْ أَتَاكَ}، {أَلَمْ نَشْرَحْ}، {أَلَمْ تَرَ}، {أَرَأَيْتَ}. التَّاسِعُ: الدُّعَاءُ فِي ثَلَاثٍ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}، {تَبَّتْ}. الْعَاشِرُ: التَّعْلِيلُ فِي {تَبَّتْ}. هَكَذَا جَمَعَ أَبُو شَامَةَ قَالَ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الدُّعَاءِ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْخَبَرِ، وَكَذَا الثَّنَاءُ كُلُّهُ خَبَرٌ إِلَّا سَبِّحْ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْأَمْرِ، وَسُبْحَانَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ. ثُمَّ نَظَمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ: أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو *** تِ الْحَمْدِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا وَالْأَمْرِ شَرْطِ النِّدَا التَّعْلِيلِ وَالْقَسَمِ الدُّ *** عَا حُرُوفِ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَان: مِنَ الْبَلَاغَةِ حُسْنُ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَتَأَنَّقَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ فَإِنْ كَانَ مُحَرَّرًا أَقْبَلَ السَّامِعُ عَلَى الْكَلَامِ وَوَعَاهُ، وَإِلَّا أَعْرَضَ عَنْهُ لَوْ كَانَ الْبَاقِي فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَعْذَبِ اللَّفْظِ وَأَجْزَلِهِ وَأَرَقِّهِ وَأَسْلَسِهِ، وَأَحْسَنِهِ نَظْمًا وَسَبْكًا، وَأَصَحِّهِ مَعْنًى، وَأَوْضَحِهِ وَأَخْلَاهُ مِنَ التَّعْقِيدِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمُلْبِسِ، أَوِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ. قَالُوا: وَقَدْ أَتَتْ جَمِيعُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَبْلَغِهَا وَأَكْمَلِهَا، كَالتَّحْمِيدَاتِ وَحُرُوفِ الْهِجَاءِ وَالنِّدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنَ الِابْتِدَاءِ الْحَسَنِ نَوْعٌ أَخَصُّ مِنْهُ يُسَمَّى: بَرَاعَةَ الِاسْتِهْلَالِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ، وَيُشِيرُ إِلَى مَا سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَالْعَلَمُ الْأَسْنَى فِي ذَلِكَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ مَطْلَعُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِهِ، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَان: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا: التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ الْقُرْآنَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَدْ وُجِّهَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعُلُومَ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَتْ بِهَا الْأَدْيَانُ أَرْبَعَةٌ: عِلْمُ الْأُصُولِ وَمَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ {رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَمَعْرِفَةُ النُّبُوَّاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وَعِلْمُ الْعِبَادَات: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وَعِلْمُ السُّلُوك: وَهُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَعِلْمُ الْقَصَص: وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ لِيَعْلَمَ الْمُطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ سَعَادَةَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَشَقَاوَةَ مَنْ عَصَاهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَنَبَّهَ فِي الْفَاتِحَةِ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْحَسَنَةِ وَالْمَقَاطِعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ. وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةٍ اقْرَأْ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَظِيرِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةُ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، لِكَوْنِهَا أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فَإِنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْبَدَاءَةَ فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ وَفِيهِ الْإِشَارَةُ عَلَى عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ وَإِثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ، وَفِي هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ مِنْ قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَق: 5]. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا جَدِيرَةٌ أَنْ تُسَمَّى عُنْوَانَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ عُنْوَانَ الْكِتَابِ يَجْمَعُ مَقَاصِدَهُ بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ فِي أَوَّلِهِ.
هِيَ أَيْضًا مِثْلُ الْفَوَاتِحِ فِي الْحُسْنِ لِأَنَّهَا آخَرُ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ فَلِهَذَا جَاءَتْ مُتَضَمِّنَةً لِلْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ مَعَ إِيذَانِ السَّامِعِ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلنُّفُوسِ تَشَوُّفٌ إِلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدُ، لِأَنَّهَا بَيْنَ أَدْعِيَةٍ وَوَصَايَا وَفَرَائِضَ، وَتَحْمِيدٍ، وَتَهْلِيلٍ وَمَوَاعِظَ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. كَتَفْصِيلِ جُمْلَةِ الْمَطْلُوبِ فِي خَاتِمَةِ الْفَاتِحَةِ، إِذِ الْمَطْلُوبُ الْأَعْلَى: الْإِيمَانُ الْمَحْفُوظُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُسَبِّبَةِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ، فَفَصَّلَ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِه: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْإِنْعَامَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ إِنْعَامٍ لِأَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِكُلِّ نِعْمَةٍ; لِأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعَمِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ السَّلَامَةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَالضَّلَالِ الْمُسَبَّبَيْنِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَعَدِّي حُدُودِهِ. وَكَالدُّعَاءِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَكَالْوَصَايَا الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} وَالْفَرَائِضُ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا سُورَةُ النِّسَاءِ، وَحَسُنَ الْخَتْمُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ آخِرُ أَمْرِ كُلِّ حَيٍّ، وَلِأَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَكَالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْمَائِدَةُ وَكَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْأَنْعَامُ، وَكَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْأَعْرَافُ، وَكَالْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ الَّتِي خَتَمَ بِهِ الْأَنْفَالُ، وَكَوَصْفِ الرَّسُولِ وَمَدْحِهِ، وَالتَّهْلِيلِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ بَرَاءَةٌ، وَتَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ يُونُسُ، وَمِثْلُهَا خَاتِمَةُ هُودٍ، وَوَصْفُ الْقُرْآنِ وَمَدْحُهُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ يُوسُفَ، وَالْوَعِيدُ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ الَّذِي خَتَمَ بِهِ الرَّعْدَ. وَمِنْ أَوْضَحِ مَا آذَنَ بِالْخِتَامِ خَاتِمَةُ إِبْرَاهِيمَ {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ. وَمِثْلُهَا خَاتِمَةُ الْأَحْقَافِ، وَكَذَا خَاتِمَةُ الْحِجْرِ بِقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِالْمَوْتِ فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْبَرَاعَةِ. وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ، كَيْفَ بُدِئَتْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَخُتِمَتْ بِقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَانْظُرْ إِلَى بَرَاعَةِ آخَرِ آيَةٍ نَزَلَتْ وَهِيَ قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 281]. وَمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْآخِرِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوَفَاةِ. وَكَذَلِكَ آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ وَهِيَ سُورَةُ النَّصْرِ فِيهَا الْإِشْعَارُ بِالْوَفَاةِ، كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُمْ عَنْ قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالُوا: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ. قَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: أَجَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ. قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّأْلِيفِ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ أَبِي حَيَّانَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْبُرْهَانَ فِي مُنَاسَبَةِ تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ (نَظْمُ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ الْآيِ وَالسُّوَرِ) وَكِتَابِي الَّذِي صَنَّفْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ كَافِلٌ بِذَلِكَ جَامِعٌ لِمُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ وَأَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ مُنَاسَبَةَ السُّوَرِ خَاصَّةً فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ، سَمَّيْتُهُ تَنَاسُقَ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ السُّوَرِ. وَعِلْمُ الْمُنَاسَبَةِ عِلْمٌ شَرِيفٌ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهِ لِدِقَّتِهِ، وَمِمَّنْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِه: أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ: ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ، خَتَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ عَلِمَ الْمُنَاسَبَةِ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ إِذَا قُرِئَ عَلَيْه: لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَام: الْمُنَاسِبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ ارْتِبَاطٌ، وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرَبْطٍ رَكِيكٍ، يُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، شُرِّعَتْ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْمَلَّوِيُّ: قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ: لَا يُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ لِأَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ الْمُفَرَّقَةِ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا، وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا وَتَأْصِيلًا، فَالْمُصْحَفُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُرَتَّبَةٌ سُوَرُهُ كُلُّهَا وَآيَاتُهَا بِالتَّوْقِيفِ، كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا؟ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ، وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسْبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ، وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا بِسَبَبِ تَرْتِيبِهِ، وَنَظْمِ آيَاتِهِ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ غَيْرَ مُنْتَبِهِينَ لِهَذِهِ الْأَسْرَارِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا كَمَا قِيلَ: وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ صُورَتَهُ *** وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ
الْمُنَاسِبَةُ فِي اللُّغَة: الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ وَمَرْجِعُهَا فِي الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا إِلَى مَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهَا عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ، عَقْلِيٍّ، أَوْ حِسِّيٍّ، أَوْ خَيَالِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ، أَوِ التَّلَازُمِ الذِّهْنِيِّ كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ، وَنَحْوِهِ. وَفَائِدَتُهُ: جَعْلُ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ بَعْضِهَا آخِذًا بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ، الْمُنَاسَبَةُ فِي الْقُرْآنِ فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حَالُهُ حَالُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ، فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْآيَةِ بَعْدَ الْأُخْرَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الِارْتِبَاطِ لِتَعَلُّقِ الْكَلِمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَعَدَمِ تَمَامِهِ بِالْأَوْلَى فَوَاضِحٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ لِلْأُولَى عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ أَوِ التَّفْسِيرِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا كَلَامَ فِيهِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا خِلَافُ النَّوْعِ الْمَبْدُوءِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْحُكْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الْحَدِيد: 4]. وَقَوْلِه: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَة: 245]. لِلتَّضَادِّ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ وَالنُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَشِبْهِ التَّضَادِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَمِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ التَّضَادُّ: ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَالرَّغْبَةِ بَعْدَ الرَّهْبَةِ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ إِذَا ذَكَرَ أَحْكَامًا ذَكَرَ بَعْدَهَا وَعْدًا وَوَعِيدًا لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا سَبَقَ ثُمَّ يَذْكُرُ آيَاتِ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ لِيُعْلَمَ عِظَمُ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دِعَامَةٍ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ وَهِيَ قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِالرَّبْطِ وَلَهُ أَسْبَابٌ. بَيْنَ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: التَّنْظِيرُ فَإِنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ كَقَوْلِه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، عَقِبَ قَوْلِه: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الْأَنْفَال: 4، 5]. فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَمْضِيَ لِأَمْرِهِ فِي الْغَنَائِمِ عَلَى كُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمَا مَضَى لِأَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ لِطَلَبِ الْعِيرِ أَوْ لِلْقِتَالِ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ. وَالْقَصْدُ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ كَكَرَاهَتِهِمْ لِلْخُرُوجِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْخُرُوجِ الْخَيْرُ مِنَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَزِّ الْإِسْلَامِ، فَكَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ فِي الْقِسْمَةِ فَلْيُطِيعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا هَوَى أَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي: الْمُضَادَّةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 6] فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ حَدِيثًا عَنِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا أَكْمَلَ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ، عَقَّبَ بِحَدِيثِ الْكَافِرِينَ فَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَهْمِيٌّ بِالتَّضَادِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحِكْمَتُهُ التَّشْوِيقُ وَالثُّبُوتُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قِيلَ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا جَامِعٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ. قِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَامِعِ ذَلِكَ بَلْ يَكْفِي التَّعَلُّقُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَيَكْفِي فِي وَجْهِ الرَّبْطِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [الْبَقَرَة: 23]. فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: الِاسْتِطْرَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الْأَعْرَاف: 26]. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ عَقِبَ ذِكْرِ بُدُوِّ السَّوْءَاتِ، وَخَصْفِ الْوَرَقِ عَلَيْهِمَا إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ فِي مَا خَلَقَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلِمَا فِي الْعُرْيِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ السَّتْرَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْوَى. وَقَدْ خَرَّجْتُ عَلَى الِاسْتِطْرَادِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النِّسَاء: 172]. فَإِنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ ذُكِرَ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الزَّاعِمِينَ بُنُوَّةَ الْمَسِيحِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ لِلرَّدِّ عَلَى الْعَرَبِ الزَّاعِمِينَ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ. وَيَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ حَتَّى لَا يَكَادَانِ يَفْتَرِقَانِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا ابْتُدِئَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهٍ سَهْلٍ يَخْتَلِسُهُ اخْتِلَاسًا دَقِيقَ الْمَعْنَى، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ السَّامِعُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي، لِشِدَّةِ الِالْتِئَامِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ غَلِطَ أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ فِي قَوْلِه: لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى الِاقْتِضَابِ الَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِ مُلَائِمٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ: فَفِيهِ مِنَ التَّخَلُّصَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ كَيْفَ ذُكِرَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ ثُمَّ ذُكِرَ مُوسَى إِلَى أَنْ قَصَّ حِكَايَةَ السَّبْعِينَ رَجُلًا وَدُعَائِهِ لَهُمْ، وَلِسَائِرِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} وَجَوَابُهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ تَخَلَّصَ بِمَنَاقِبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ تَخَلُّصِهِ لِأُمَّتِهِ بِقَوْلِه: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ} [الْأَعْرَاف: 156]. مِنْ صِفَاتِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهُمُ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وَأَخَذَ فِي صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفَضَائِلِهِ. وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاء: حَكَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} فَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَصْفِ الْمَعَادِ بِقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشُّعَرَاء: 87- 88]. وَفِي سُورَةِ الْكَهْف: حَكَى قَوْلَ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي السَّدِّ بَعْدَ دَكِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثُمَّ النَّفْخُ فِي الصُّورِ، وَذَكَرَ الْحَشْرَ، وَوَصَفَ مَا لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَاد: أَنَّكَ فِي التَّخَلُّصِ تَرَكْتَ مَا كُنْتَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَقْبَلْتَ عَلَى مَا تَخَلَّصْتَ إِلَيْهِ، وَفِي الِاسْتِطْرَادِ تَمُرُّ بِذِكْرِ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَطْرَدْتَ إِلَيْهِ مُرُورًا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، ثُمَّ تَتْرُكُهُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ، كَأَنَّكَ لَمْ تَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا عَرَضَ عُرُوضًا. قِيلَ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لَا التَّخَلُّصِ لِعَوْدِهِ فِي الْأَعْرَافِ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى بِقَوْلِه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} [الْأَعْرَاف: 59]. وَفِي الشُّعَرَاءِ إِلَى ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ. وَيَقْرُبُ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى آخَرَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، مَفْصُولًا بِهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاء: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49]. فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ لِمَا انْتَهَى ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَوْعًا آخَرَ وَهُوَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55]. فَذَكَرَ النَّارَ وَأَهْلَهَا. قَالَ ابْنُ الْأَثِير: هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْفَصْلِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ أَكِيدَةٌ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَيْضًا حُسْنُ الْمَطْلَبِ، قَالَ الزَّنْجَانِيُّ وَالطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْوَسِيلَةِ، كَقَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالْمَطْلَبِ مَعًا قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 77، 78]. إِلَى قَوْلِه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُفِيدُ لِعِرْفَانِ مُنَاسَبَاتِ الْآيَاتِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ: أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ السُّورَةُ، وَتَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْغَرَضُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ، وَتَنْظُرُ إِلَى مَرَاتِبِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْمَطْلُوبِ، وَتَنْظُرُ عِنْدَ انْجِرَارِ الْكَلَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِلَى مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ اسْتِشْرَافِ نَفْسِ السَّامِعِ إِلَى الْأَحْكَامِ وَاللَّوَازِمِ التَّابِعَةِ لَهُ، الَّتِي تَقْتَضِي الْبَلَاغَةُ شِفَاءَ الْغَلِيلِ بِدَفْعِ عَنَاءِ الِاسْتِشْرَافِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُهَيْمِنُ عَلَى حُكْمِ الرَّبْطِ بَيْنَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا عَقَلْتَهُ تَبَيَّنَ لَكَ وَجْهُ النَّظْمِ مُفَصَّلًا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَآيَةٍ، وَفِي كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٌ انْتَهَى.
مِنَ الْآيَاتِ مَا أَشْكَلَتْ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْقُرْآن: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِيَامَة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [الْقِيَامَة: 7] الْآيَاتِ فَإِنَّ وَجْهَ مُنَاسَبَتِهَا لِأَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا عَسِرٌ جِدًّا، فَإِنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا فِي أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ السُّورَةِ شَيْءٌ، وَحَتَّى ذَهَبَ الْقَفَّالُ فِيمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِّيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ فِي قَوْلِه: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَة: 13]. قَالَ: يَعْرِضُ عَلَيْهِ كِتَابَهُ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ خَوْفًا، فَأَسْرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَ عَمَلَكَ وَأَنْ نَقْرَأَ عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبَعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِ الْإِنْسَانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعُقُوبَتِهِ انْتَهَى. وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَانَهُ حَالَةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ لَهَا مُنَاسَبَاتٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يُقَصِّرُ عَنِ الْعَمَلِ لَهَا حُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَكَانَ مِنْ أَصِلِ الدِّينَ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى أَفْعَالِ الْخَيْرِ مَطْلُوبَةٌ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْإِصْغَاءُ إِلَى الْوَحْيِ وَتَفَهُّمُ مَا يَرِدُ مِنْهُ وَالتَّشَاغُلُ بِالْحِفْظِ، قَدْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِأَنْ لَا يُبَادِرَ إِلَى التَّحَفُّظِ، لِأَنَّ تَحْفِيظَهُ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّهِ، وَلْيُصْغِ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، فَيَتَّبِعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتِ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ الْمُبْتَدَأِ بِذِكْرِهِ، وَمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَالَ: كَلَّا وَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِكَوْنِكُمْ خُلِقْتُمْ مِنْ عَجَلٍ تَعْجَلُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ ثَمَّ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ إِذَا ذَكَرَ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُعْرَضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْمُحَاسَبَةُ عَمَلًا وَتَرْكًا. كَمَا قَالَ فِي الْكَهْف: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الْآيَةَ [الْكَهْف: 49- 54]. وَقَالَ فِي سُبْحَانَ: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 71- 89]. وَقَالَ فِي طه {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 102- 114]. وَمِنْهَا: أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ لَمَّا نَزَلَ إِلَى {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} صَادَفَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَادَرَ إِلَى تَحَفُّظِ الَّذِي نَزَلَ، وَحَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ مَنْ عَجَلَتِهِ خَشْيَةً مِنْ تَفَلُّتِهِ، فَنَزَلَ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} إِلَى قَوْلِه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَة: 15- 19]. ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَكْمِلَةِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَنَحْوَهُ مَا لَوْ أَلْقَى الْمُدَرِّسُ عَلَى الطَّالِبِ مَثَلًا مَسْأَلَةً فَتَشَاغَلَ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ عَرَضَ لَهُ فَقَالَ لَهُ: أَلْقِ إِلَيَّ بَالَكَ وَتَفَهَّمْ مَا أَقُولُ، ثُمَّ كَمَّلَ الْمَسْأَلَةَ. فَمَنْ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُنَاسِبًا لِلْمَسْأَلَةِ، بِخِلَافِ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ نَفْسِ الْمُصْطَفَى كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ نَفْسُكَ أَشْرَفُ النُّفُوسِ، فَلْتَأْخُذْ بِأَكْمَلِ الْأَحْوَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 189] فَقَدَ يُقَالُ: أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ أَحْكَامِ الْأَهِلَّةِ وَبَيْنَ حُكْمِ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لِمَا ذَكَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ فِي الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ذَكَرَ مَعَهُ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 114] فَقَدْ يُقَالُ: مَا وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 114]. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَفْسِيرِه: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الدَّهَّانَ يَقُولُ: وَجْهُ اتِّصَالِهِ هُوَ أَنَّ ذِكْرَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ سَبَقَ، أَيْ: فَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ذَلِكَ وَاسْتَقْبَلُوهُ، فَإِنَّ لَهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ. مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُنَاسِبَةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ وَخَوَاتِمِهَا، فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِيهِ جُزْءًا لَطِيفًا سَمَّيْتُهُ مَرَاصِدَ الْمَطَالِعِ فِي تَنَاسُبُ الْمَقَاطِعِ وَالْمَطَالِعِ. وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الْقَصَصِ كَيْفَ بُدِئَتْ بِأَمْرِ مُوسَى وَنُصْرَتِهِ، وَقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [الْقَصَص: 17]. وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ، وَخُتِمَتْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَكُونَ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَتَسْلِيَتِهِ عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَوَعْدِهِ بِالْعَوْدِ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {إِنَّا رَادُّوهُ} [الْقَصَص: 7]. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فَاتِحَةَ سُورَةِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وَأَوْرَدَ فِي خَاتِمَتِهَا {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]. فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَاتِمَةِ. وَذِكَرَ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِبِ مِثْلَهُ. وَقَالَ: فِي سُورَةِ (ص) بَدَأَهَا بِالذِّكْرِ وَخَتَمَهَا بِهِ فِي قَوْلِه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 78]. وَفِي سُورَةِ (ن) بَدَأَهَا بِقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} وَخَتَمَهَا بِقَوْلِه: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [الْقَلَم: 2، 51]. وَمِنْهُ مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ السُّورَةِ لِخَاتِمَةِ مَا قَبْلَهَا، حَتَّى إِنَّ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُهَا بِهِ لَفْظًا، كَمَا فِي {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الْفِيل: 5]. {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قُرَيْشٍ: 1]. فَقَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ: اتِّصَالُهَا بِهَا مِنْ بَابِ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَص: 8]. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَة: لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَة: 1]. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا اعْتَبَرْتَ افْتِتَاحَ كُلِّ سُورَةٍ وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا خُتِمَ بِهِ السُّورَةُ قَبْلَهَا، ثُمَّ هُوَ يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى، كَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْحَمْدِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ الْمَائِدَةِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزُّمَر: 75]. وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سَبَأٍ: 54]. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْأَنْعَام: 45]. وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ بِالْأَمْرِ بِهِ. وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّرَاطِ فِي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ، قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِبَاطُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْفَاتِحَةِ. وَمِنْ لَطَائِفِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّهَا كَالْمُقَابِلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ السَّابِقَةَ وَصَفَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقَ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْبُخْلِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ فِيهَا، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَذَكَرَ فِيهَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُخْلِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَي: الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَفِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاة: فَصَلِّ أَيْ: دُمْ عَلَيْهَا، وَفِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاء: لِرَبِّكَ أَيْ: لِرِضَاهُ لَا لِلنَّاسِ وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْعِ الْمَاعُون: وَانْحَرْ وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِتَرْتِيبِ وَضْعِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ أَسْبَابٌ تُطْلِعُ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ صَادِرٌ عَنْ حَكِيمٍ. أَحَدُهَا: بِحَسَبِ الْحُرُوفِ كَمَا فِي الْحَوَامِيمِ. الثَّانِي: الْمُوَافَقَةُ أَوَّلُ السُّورَةِ لِآخَرِ مَا قَبْلَهَا كَآخِرِ الْحَمْدِ فِي الْمَعْنَى وَأَوَّلِ الْبَقَرَةِ. الثَّالِث: لِلتَّوَازُنِ فِي اللَّفْظِ، كَآخِرِ تَبَّتْ وَأَوَّلِ الْإِخْلَاصِ. الرَّابِعُ: لِمُشَابِهَةِ جُمْلَةِ السُّورَةِ لِجُمْلَةِ الْأُخْرَى كَالضُّحَى وَ{أَلَمْ نَشْرَحْ}. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّة: وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ تَضَمَّنَتِ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصِّيَانَةَ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَسُورَةُ الْبَقَرَة: تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الدِّينِ. وَآلِ عِمْرَانَ: مُكَمِّلَةٌ لِمَقْصُودِهَا، فَالْبَقَرَةُ بِمَنْزِلَةِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ وَآلُ عِمْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْخُصُومِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُتَشَابِهِ لِمَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى، وَأَوْجَبَ الْحَجَّ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَأَمَّا فِي الْبَقَرَةِ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَأَمَرَ بِإِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ. وَكَانَ خِطَابُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ أَكْثَرَ، كَمَا أَنَّ خِطَابَ الْيَهُودِ فِي الْبَقَرَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أَصْلٌ، وَالْإِنْجِيلَ فَرْعٌ لَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ دَعَا الْيَهُودَ وَجَاهَدَهُمْ. وَكَانَ جِهَادُهُ لِلنَّصَارَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلِهَذَا كَانَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فِيهَا الدِّينُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَخُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فِيهَا خِطَابُ مَنْ أَقَرَّ بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَخُوطِبُوا بِيَا أَهْلَ الْكِتَابِ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَأَمَّا سُورَةُ النِّسَاء: فَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ، وَهِيَ نَوْعَان: مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، وَمَقْدُورَةٌ لَهُمْ كَالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ، وَلِهَذَا افْتَتَحَتْ بِقَوْلِه: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ الْعَجِيبَةِ فِي الِافْتِتَاحِ وَبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ حَيْثُ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا مَا أَكْثَرُ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِه: مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَمُحْرَّمَاتِهِ، وَالْمَوَارِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَرْحَامِ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ هَذَا الْأَمْرِ كَانَ بِخَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ خَلْقِ زَوْجِهِ مِنْهُ، ثُمَّ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ. وَأَمَّا الْمَائِدَةُ فَسُورَةُ الْعُقُودِ تَضَمَّنَتْ بَيَانَ تَمَامِ الشَّرَائِعِ، وَمُكَمِّلَاتِ الدِّينِ وَالْوَفَاءِ بِعُهُودِ الرُّسُلِ، وَمَا أُخِذَ عَلَى الْأُمَّةِ، وَبِهَا تَمَّ الدِّينُ، فَهِيَ سُورَةُ التَّكْمِيلِ; لِأَنَّ فِيهَا تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ الْإِحْرَامِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَعُقُوبَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنَ السُّرَّاقِ وَالْمُحَارِبِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِحْلَالَ الطَّيِّبَاتِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ فِيهَا مَنْ لَفْظِ الْإِكْمَالِ وَالْإِتْمَامِ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ عَوَّضَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَلَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ كَامِلًا، وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ لِمَا فِيهَا مِنْ إِشَارَاتِ الْخَتْمِ وَالتَّمَامِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّاتِ مِنْ أَحْسَنِ التَّرْتِيبِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْر: حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى الْقُرْآنِ، وَضَعُوا سُورَةَ الْقَدْرِ عَقِبَ الْعَلَقِ، اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِه: {فَإِذَا قَرَأْتَ}. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ: وَهَذَا بَدِيعٌ جِدًّا.
قَالَ فِي الْبُرْهَان: وَمِنْ ذَلِكَ افْتِتَاحُ السُّوَرِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا بُدِئَتْ بِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِتَرِدَ الم فِي مَوْضِعِ الر وَلَا حم فِي مَوْضِعِ طس. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بُدِئَتْ بِحَرْفٍ مِنْهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ كَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا مُمَاثِلٌ لَهُ، فَحَقَّ لِكُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ لَا يُنَاسِبَهَا غَيْرُ الْوَارِدَةِ فِيهَا، فَلَوْ وُضِعَ (ق) مَوْضِعَ (ن) لِعُدِمَ التَّنَاسُبُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَسُورَةُ (ق) بُدِئَتْ بِهِ لَمَّا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ بِلَفْظِ الْقَافِ، مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالْخَلْقِ وَتَكْرِيرِ الْقَوْلِ وَمُرَاجَعَتِهِ مِرَارًا، وَالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ آدَمَ، وَتَلَقِّي الْمَلَكَيْنِ، وَقَوْلِ الْعَتِيدِ، وَالرَّقِيبِ، وَالسَّائِقِ، وَالْإِلْقَاءِ فِي جَهَنَّمَ، وَالتَّقَدُّمِ بِالْوَعْدِ، وَذِكْرِ الْمُتَّقِينَ، وَالْقَلْبِ، وَالْقُرُونِ، وَالتَّنْقِيبِ فِي الْبِلَادِ وَتَشَقِّقِ الْأَرْضِ، وَحُقُوقِ الْوَعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنَ الْكَلِمِ الْوَاقِعِ فِيهَا الرَّاءُ مِائَتَا كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرُ، فَلِهَذَا افْتُتِحَتْ بِـ الر وَاشْتَمَلَتْ سُورَةُ (ص) عَلَى خُصُومَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَأَوَّلُهَا خُصُومَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]. ثُمَّ اخْتِصَامُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ دَاوُدَ، ثُمَّ تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ اخْتِصَامُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى ثُمَّ تُخَاصُمُ إِبْلِيسَ فِي شَأْنِ آدَمَ، ثُمَّ فِي شَأْنِ بَنِيهِ وَإِغْوَائِهِمْ. وَ(الم) جَمَعَتِ الْمَخَارِجَ الثَّلَاثَةَ: الْحَلْقَ وَاللِّسَانَ وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِدَايَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ الْخَلْقِ، وَالنِّهَايَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ الْمِيعَادِ، وَالْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الْمَعَاشُ مِنَ التَّشْرِيعِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَكُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِهَا فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ زِيدَ فِيهَا الصَّادُ عَلَى (الم) لِمَا فِيهَا مِنْ شَرْحِ الْقَصَصِ، قِصَّةِ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْر: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى المص: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وَزِيدَ فِي الرَّعْدِ رَاءً لِأَجْلِ قَوْلِه: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [2]. وَلِأَجْلِ ذِكْرِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَغَيْرِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِه: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [الْبَقَرَةِ]. {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آلِ عِمْرَانَ]. {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الْأَعْرَافِ]. {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الْحِجْرِ]. {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه]. {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} [النَّمْلِ]. {يس وَالْقُرْآنِ}. {ص وَالْقُرْآنِ}. {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الْجَاثِيَةِ]. {ق وَالْقُرْآنِ {إِلَّا ثَلَاثَ سُوَرٍ: الْعَنْكَبُوتِ، وَالرُّومِ، وَ[ن]، لَيْسَ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْتُ حِكْمَةَ ذَلِكَ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ. وَقَالَ الْحَرَّانِيُّ فِي مَعْنَى حَدِيث: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَّالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ». اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْخَلْقِ، وَكَمَالِ كُلِّ الْأَمْرِ , بَدَأَ فَكَانَ الْمُتَحَلِّي بِهِ جَامِعًا لِانْتِهَاءِ كُلِّ خَلْقٍ، وَكَمَالِ كُلِّ أَمْرٍ، فَلِذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسِيمُ الْكَوْنِ وَهُوَ الْجَامِعُ الْكَامِلُ وَلِذَلِكَ كَانَ خَاتِمًا، وَكِتَابُهُ كَذَلِكَ، وَبَدَأَ الْمَعَادُ مِنْ حِينِ ظُهُورِهِ، فَاسْتُوفِيَ فِي صَلَاحِ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي الْأَوَّلِينَ بِدَايَاتُهَا، وَتَمَّتْ عِنْدَهُ غَايَاتُهَا: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» وَهِيَ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَالْمَعَادِ الَّتِي جَمَعَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي». وَفِي كُلِّ صَلَاحٍ إِقْدَامٌ وَإِحْجَامٌ، فَتَصِيرُ الثَّلَاثَةُ الْجَوَامِعُ سِتَّةً هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ السِّتَّةُ، ثُمَّ وَهَبَ حَرْفًا جَامِعًا سَابِعًا فَرْدًا لَا زَوْجَ لَهُ فَتَمَّتْ سَبْعَةً. فَأَدْنَى تِلْكَ الْحُرُوفِ هُوَ حَرْفَا صَلَاحِ الدُّنْيَا فَلَهَا حَرْفَان: حَرْفُ الْحَرَامِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ النَّفْسُ وَالْبَدَنُ إِلَّا بِالتَّطَهُّرِ مِنْهُ لِبُعْدِهِ عَنْ تَقْوِيمِهَا، وَالثَّانِي حَرْفُ الْحَلَالِ الَّذِي تَصْلُحُ النَّفْسُ وَالْبَدَنُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ تَقْوِيمَهَا، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَيْلِي ذَلِكَ حَرْفَا صَلَاحِ الْمَعَادِ، أَحَدُهُمَا: حَرْفُ الزَّجْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْآخِرَةُ إِلَّا بِالتَّطَهُّرِ مِنْهُ لِبُعْدِهِ عَنْ حَسَنَاتِهَا، وَالثَّانِي: حَرْفُ الْأَمْرِ الَّذِي تَصْلُحُ الْآخِرَةُ عَلَيْهِ لِتَقَاضِيهِ لِحَسَنَاتِهَا. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْإِنْجِيلِ، وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَيْلِي ذَلِكَ حَرْفَا صَلَاحِ الدِّين: أَحَدُهُمَا حَرْفُ الْمُحْكَمِ الَّذِي بَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطَابُ رَبِّهِ. وَالثَّانِي حَرْفُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطَابُ رَبِّهِ مِنْ جِهَةِ قُصُورِ عَقْلِهِ عَنْ إِدْرَاكِهِ. فَالْحُرُوفُ الْخَمْسَةُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا الْحَرْفُ السَّادِسُ لِلْوُقُوفِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ، وَيَخْتَصُّ الْقُرْآنُ بِالْحَرْفِ السَّابِعِ الْجَامِعِ، وَهُوَ حَرْفُ الْمَثَلِ الْمُبَيِّنِ لِلْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْحَمْدُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهِ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ فِيهَا جَوَامِعَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي بَثَّهَا فِي الْقُرْآنِ، فَالْآيَةُ الْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفِ الْحَمْدِ السَّابِعِ. وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفَيِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ اللَّذَيْنِ أَقَامَتِ الرَّحْمَانِيَّةُ بِهِمَا الدُّنْيَا وَالرَّحِيمِيَّةُ الْآخِرَةَِ. وَالثَّالِثَةُ: تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرِ الْمَلِكِ الْقَيِّمِ عَلَى حَرْفَيِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اللَّذَيْنِ يَبْدَأُ أَمْرُهُمَا فِي الدِّينِ. وَالرَّابِعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفَيِ الْمُحْكَمِ فِي قَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وَالْمُتَشَابِهِ فِي قَوْلِه: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَلَمَّا افْتَتَحَ أُمَّ الْقُرْآنِ بِالسَّابِعِ الْجَامِعِ الْمَوْهُوبِ ابْتُدِئَتِ الْبَقَرَةُ بِالسَّادِسِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَرَّانِيِّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَخِيرُ، وَبَقِيَّتُهُ يَنْبُو عَنْهُ السَّمْعُ وَيَنْفِرُ مِنْهُ الْقَلْبُ، وَلَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ حِكَايَتِهِ عَلَى أَنِّي أَقُولُ فِي مُنَاسَبَةِ ابْتِدَاءِ الْبَقَرَةِ بِـ الم أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ابْتُدِئَتِ الْفَاتِحَةُِ بِالْحَرْفِ الْمُحْكَمِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ، حَيْثُ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، ابْتُدِئَتِ الْبَقَرَةُ بِمُقَابِلِهِ، وَهُوَ الْحَرْفُ الْمُتَشَابِهُ الْبَعِيدُ التَّأْوِيلِ أَوِ الْمُسْتَحِيلُهُ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مُنَاسَبَةُ أَسْمَاءِ السُّوَرِ لِمَقَاصِدِهَا فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ السَّابِعَ عَشَرَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي عَجَائِبِ الْكِرْمَانِيّ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ السُّوَرُ السَّبْعُ حم عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ، لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ التَّشَاكُلِ الَّذِي اخْتُصَّتْ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا اسْتَفْتَحَتْ بِالْكِتَابِ أَوْ صِفَةِ الْكِتَابِ مَعَ تَقَارُبِ الْمَقَادِيرِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَتُشَاكُلِ الْكَلَامِ فِي النِّظَامِ. فَوَائِدُ مَنْثُورَةٌ فِي الْمُنَاسَبَاتِ. فِي تَذْكِرَةِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: سُئِلَ الْإِمَامُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي افْتِتَاحِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْكَهْفِ بِالتَّحْمِيدِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ التَّسْبِيحَ حَيْثُ جَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ، نَحْوَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الْحِجْر: 98]. سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَجَابَ ابْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ بِأَنَّ سُورَةَ سُبْحَانَ لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِسْرَاءِ الَّذِي كَذَّبَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْذِيبُهُ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَتَى بِسُبْحَانَ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا نُسِبَ إِلَى نَبِيِّهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَسُورَةُ الْكَهْفِ لَمَّا أُنْزِلَتْ بَعْدَ سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَتَأَخُّرِ الْوَحْيِ، نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْطَعْ نِعْمَتَهُ عَنْ نَبِيِّهِ وَلَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ أَتَمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فَنَاسَبَ افْتِتَاحَهَا بِالْحَمْدِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ. فِي تَفْسِيرِ الْخُوَيِّيّ: ابْتُدِئَتِ الْفَاتِحَةُ بِقَوْلِه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَوَصَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَفِي الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ وَسَبَأٍ وَفَاطِرٍ لَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ، بَلْ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ صِفَاتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فِي الْأَنْعَامِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي الْكَهْفِ، وَمِلْكِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي سَبَأٍ، وَخَلْقِهِمَا فِي فَاطِرٍ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَمَطْلَعُهُ، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانَ فِيهَا بِأَبْلَغِ الصِّفَاتِ وَأَعَمِّهَا وَأَشْمَلِهَا. فِي الْعَجَائِبِ لِلْكِرْمَانِيّ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ جَاءَ {يَسْأَلُونَكَ} أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِغَيْرِ وَاوٍ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [الْبَقَرَة: 189]. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 215]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} [الْبَقَرَة: 219]. ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاو: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَة: 220]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [الْبَقَرَة: 222]. قُلْنَا: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ الْأُوَلِ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا، وَعَنْ الْحَوَادِثِ الْأُخَرِ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحِرَفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ} [طه: 105]. وَعَادَةُ الْقُرْآنِ مَجِيءُ قُلْ فِي الْجَوَابِ بِلَا فَاءٍ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَوْ سُئِلَتْ عَنْهَا فَقُلْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 186]. وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِقُلْ قُلْنَا: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالِ الدُّعَاءِ فِي أَشْرَفِ الْمَقَامَاتِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ. وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أَوَّلُهُمَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فِي كُلِّ نِصْفِ سُورَةٍ فَالَّتِي هِيَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالَّتِي فِي الثَّانِي عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلْقٌ: أَوَّلُهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ الْكِسَائِيُّ وَنَظَّمَهُ السَّخَاوِيُّ، وَأَلَّفَ فِي تَوْجِيهِهِ الْكِرْمَانِيُّ كِتَابَهُ: الْبُرْهَانُ فِي مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَأَحْسَنُ مِنْهُ: دُرَّةُ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةُ التَّأْوِيلِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَلَاكُ التَّأْوِيلِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَلِلْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ لَطِيفٌ سَمَّاهُ كَشْفَ الْمَعَانِي عَنْ مُتَشَابِهِ الْمَثَانِي وَفِي كِتَابِي: أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ الْمُسَمَّى قَطْفُ الْأَزْهَارِ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ مِنْ ذَلِكَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَالْقَصْدُ بِهِ إِيرَادُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي صُوَرٍ شَتَّى وَفَوَاصِلَ مُخْتَلِفَةٍ، فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ بَلْ تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُقْدَّمًا، وَفِي آخَرَ مُؤَخَّرًا، كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَة: 58]. وَفِي الْأَعْرَاف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الْأَعْرَاف: 161]. وَفِي الْبَقَرَة: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 173]. وَسَائِرِ الْقُرْآن: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الْمَائِدَة: 3]. أَوْ فِي مَوْضِعٍ بِزِيَادَةٍ وَفِي آخَرَ بِدُونِهَا، نَحْوَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} فِي الْبَقَرَةِ [الْآيَة: 6]، وَفِي يس {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْآيَةَ: 10]. وَفِي الْبَقَرَة: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الْآيَةَ: 193]. وَفِي الْأَنْفَالِ {كُلَّهُ لِلَّهِ} [الْأَنْفَال: 39]. أَوْ فِي مَوْضِعٍ مُعَرَّفًا، وَفِي آخَرَ مُنَكَّرًا أَوْ مُفْرَدًا، وَفِي آخَرَ جَمْعًا، أَوْ بِحَرْفٍ وَفِي آخَرَ بِحَرْفٍ آخَرَ، أَوْ مُدْغَمًا وَفِي آخَرَ مَفْكُوكًا، وَهَذَا النَّوْعُ يَتَدَاخَلُ مَعَ نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مِنْهُ بِتَوْجِيهِهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْآيَةَ: 2]. وَفِي لُقْمَانَ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [الْآيَةَ: 3]. لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هُنَا مَجْمُوعَ الْإِيمَانِ نَاسَبَ الْمُتَّقِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ ثَمَّ الرَّحْمَةَ نَاسَبَ الْمُحْسِنِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا} [الْبَقَرَة: 35]. وَفِي الْأَعْرَاف: فَكُلَا [الْآيَةَ: 19]. بِالْفَاءِ، قِيلَ: لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْبَقَرَةِ الْإِقَامَةُ، وَفِي الْأَعْرَافِ اتِّخَاذُ الْمَسْكَنِ، فَلَمَّا نُسِبَ الْقَوْلُ إِلَيْهِ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} نَاسَبَ زِيَادَةَ الْإِكْرَامِ بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السُّكْنَى وَالْأَكْلِ، وَلِذَا قَالَ فِيه: رَغَدًا وَقَالَ: {حَيْثُ شِئْتُمَا} لِأَنَّهُ أَعَمُّ، وَفِي الْأَعْرَاف: {وَيَا آدَمُ} فَأَتَى بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَكْلِ عَلَى السُّكْنَى الْمَأْمُورِ بِاتِّخَاذِهَا لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الِاتِّخَاذِ، وَ{مِنْ حَيْثُ} لَا تُعْطِي عُمُومَ مَعْنَى حَيْثُ شِئْتُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 48]، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [الْبَقَرَة: 123]. فَفِيهِ تَقْدِيمُ الْعَدْلِ وَتَأْخِيرُهُ وَالتَّعْبِيرُ بِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ تَارَةً وَبِالنَّفْعِ أُخْرَى. وَذَكَرَ فِي حِكْمَتِه: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا رَاجِعٌ فِي الْأُولَى إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَى النَّفْسِ الثَّانِيَةِ. فَبَيَّنَ فِي الْأُولَى أَنَّ النَّفْسَ الشَّافِعَةَ الْجَازِيَةَ عَنْ غَيْرِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ، وَقُدِّمَتِ الشَّفَاعَةُ لِأَنَّ الشَّافِعَ يُقَدِّمُ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْعَدْلِ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّفْسَ الْمَطْلُوبَةَ بِجُرْمِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةُ شَافِعٍ مِنْهَا، وَقَدَّمَ الْعَدْلَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّفَاعَةِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ رَدِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْأُولَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَفِي الثَّانِيَة: وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ مِنَ الشَّافِعِ وَإِنَّمَا تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} [الْبَقَرَة: 49]. وَفِي إِبْرَاهِيمَ وَيُذَبِّحُونَ [إِبْرَاهِيمَ: 6]. بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْأُولَى مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَلَمْ يُعَدِّدْ عَلَيْهِمُ الْمِحَنَ تَكَرُّمًا فِي الْخِطَابِ، وَالثَّانِيَةَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى فَعَدَّدَهَا، وَفِي الْأَعْرَافِ يَقْتُلُونَ [الْأَعْرَاف: 141]. وَهُوَ مِنْ تَنْوِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُسَمَّى بِالتَّفَنُّنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 58]. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ اخْتِلَافُ أَلْفَاظٍ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} [الْبَقَرَة: 47]. إِلَى آخِرِهِ، فَنَاسَبَ نِسْبَةَ الْقَوْلِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَنَاسَبَ قَوْلَهُ: رَغَدًا لِأَنَّ الْمُنْعَمَ بِهِ أَتَمُّ وَنَاسَبَ تَقْدِيمَ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [الْبَقَرَة: 58]. وَنَاسَبَ خَطَايَاكُمْ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَنَاسَبَ الْوَاوَ فِي وَسَنَزِيدُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَنَاسَبَ الْفَاءَ فِي فَكُلُوا لِأَنَّ الْأَكْلَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الدُّخُولِ، وَآيَةُ الْأَعْرَافِ افْتُتِحَتْ بِمَا فِيهِ تَوْبِيخُهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الْأَعْرَاف: 138]. ثُمَّ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ [الْأَعْرَاف: 161]. وَنَاسَبَ تَرْكُ رَغَدًا وَالسُّكْنَى تُجَامِعُ الْأَكْلَ فَقَالَ: وَكُلُوا وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَتَرْكُ الْوَاوِ فِي وَسَنَزِيدُ وَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْرَافِ تَبْعِيضُ الْهَادِينَ بِقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الْأَعْرَاف: 159]. نَاسَبَ تَبْعِيضَ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِه: {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [الْأَعْرَاف: 162]. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْبَقَرَةِ مِثْلُهُ فَتُرِكَ، وَفِي الْبَقَرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى سَلَامَةِ غَيْرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا لِتَصْرِيحِهِ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ، وَالْإِرْسَالُ أَشَدُّ وَقْعًا مِنَ الْإِنْزَالِ، فَنَاسَبَ سِيَاقَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ فِي الْبَقَرَةِ ذَلِكَ، وَخَتَمَ آيَةَ الْبَقَرَةِ بِـ يَفْسُقُونَ [الْبَقَرَة: 59]. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الظُّلْمُ، وَالظُّلْمُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْفِسْقُ فَنَاسَبَ كُلُّ لَفْظَةٍ مِنْهَا سِيَاقَهُ. وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَة: 60]. وَفِي الْأَعْرَافِ فَانْبَجَسَتْ [الْأَعْرَاف: 160]. لِأَنَّ الِانْفِجَارَ أَبْلَغَ فِي كَثْرَةِ الْمَاءِ، فَنَاسَبَ سِيَاقَ ذِكْرِ النِّعَمِ التَّعْبِيرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [الْبَقَرَة: 80]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ: مَعْدُودَاتٍ [آلِ عِمْرَانَ: 24]. قَالَ ابْنُ جُمَاعَةَ: لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِرْقَتَانِ مِنَ الْيَهُودِ. إِحْدَاهُمَا قَالَتْ: إِنَّمَا نُعَذَّبُ بِالنَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى قَالَتْ: إِنَّمَا نُعَذَّبُ أَرْبَعِينَ، عِدَّةَ أَيَّامِ عِبَادَةِ آبَائِهِمُ الْعِجْلَ. فَآيَةُ الْبَقَرَةِ تَحْتَمِلُ قَصْدَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ عَبَّرَ بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ بِالْفِرْقَةِ الْأَوْلَى حَيْثُ أَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الْبَقَرَة: 120]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 73]. لِأَنَّ الْهُدَى فِي الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهِ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ لِتَقَدُّمِ قوله: {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 73]. وَمَعْنَاهُ: إِنَّ دِينُ اللَّهِ الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الْبَقَرَة: 126]. وَفِي إِبْرَاهِيمَ {هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إِبْرَاهِيمَ: 35]. لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَعَا بِهِ قَبْلَ مَصِيرِهِ بَلَدًا عِنْدَ تَرْكِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ بِهِ، وَهُوَ وَادٍ فَدَعَا بِأَنْ يُصَيِّرَهُ بَلَدًا. وَالثَّانِي: دَعَا بِهِ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَسُكْنَى جُرْهُمَ بِهِ، وَمَصِيرِهِ بَلَدًا فَدَعَا بِأَمْنِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [الْبَقَرَة: 137]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 84]. أَنَّ الْأُولَى خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ(إِلَى) يُنْتَهَى بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَ(عَلَى) لَا يُنْتَهَى بِهَا إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعُلُوُّ، وَالْقُرْآنُ يَأْتِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَأْتِي مُبَلِّغُهُ إِيَّاهُمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ خَاصَّةً، فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: عَلَيْنَا؛ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلَى، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي جِهَةِ الْأُمَّةِ بِإِلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [الْبَقَرَة: 187]. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [الْبَقَرَة: 229]. لِأَنَّ الْأُولَى وَرَدَتْ بَعْدَ نَوَاهٍ، فَنَاسَبَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهَا، وَالثَّانِيَةَ بَعْدَ أَوَامِرَ فَنَاسَبَ النَّهْيُ عَنْ تَعَدِّيهَا وَتَجَاوُزِهَا بِأَنْ يُوقَفَ عِنْدَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 3]. وَقَالَ: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آلِ عِمْرَانَ: 3]. لِأَنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ مُنَجَّمًا، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانَ بِـ نَزَّلَ الدَّالُّ عَلَى التَّكْرِيرِ بِخِلَافِهِمَا فَإِنَّهُمَا أُنْزِلَا دَفْعَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الْأَنْعَام: 151]. وَفِي الْإِسْرَاء: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الْإِسْرَاء: 31]. لِأَنَّ الْأُولَى خِطَابٌ لِلْفُقَرَاءِ الْمُقِلِّينَ: أَيْ: لَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرٍ بِكُمْ فَحَسُنَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ مَا يَزُولُ بِهِ إِمْلَاقُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِيَّاهُمْ أَيْ: نَرْزُقُكُمْ جَمِيعًا. وَالثَّانِيَةَ خِطَابٌ لِلْأَغْنِيَاء: أَيْ: خَشْيَةَ فَقْرٍ يَحْصُلُ لَكُمْ بِسَبَبِهِمْ وَلِذَا حَسُنَ {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الْإِسْرَاء: 31]. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَاف: 200]. وَفِي فُصِّلَتْ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فُصِّلَتْ: 36]. قَالَ ابْنُ جُمَاعَةَ: لِأَنَّ آيَةَ الْأَعْرَافِ نَزَلَتْ أَوَّلًا، وَآيَةُ فُصِّلَتْ نَزَلَتْ ثَانِيًا، فَحَسُنَ التَّعْرِيفُ أَيْ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوَّلًا عِنْدَ نُزُوغِ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [9: 67]. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التَّوْبَة: 71]. وَفِي الْكُفَّار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الْأَنْفَال: 73]. لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مُتَنَاصِرِينَ عَلَى دِينٍ مُعَيَّنٍ وَشَرِيعَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَهُودًا، وَبَعْضُهُمْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ: مِنْ بَعْضِ أَيْ: فِي الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ. وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَنَاصِرُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ كُلُّهُمْ أَعْوَانُ بَعْضِهِمْ، وَمُجْتَمِعُونَ عَلَى التَّنَاصُرِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الْحَشْر: 14]. فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا كَثِيرٌ فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَفِي نَوْعِ الْفَوَاصِلِ وَفِي أَنْوَاعٍ أُخَرَ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ: مِنْهُمُ الْخَطَّابِيُّ وَالرُّمَّانِيُّ وَالزَّمَلْكَانِيُّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَابْنُ سُرَاقَةَ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُ كِتَابِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَعْرِيفُهَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَهِيَ إِمَّا حِسِّيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ: وَأَكْثَرُ مُعْجِزَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ حِسِّيَّةً لِبَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ بَصِيرَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مُعْجِزَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَقْلِيَّةٌ لِفَرْطِ ذَكَائِهِمْ، وَكَمَالِ أَفْهَامِهِمْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ لَمَّا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى صَفَحَاتِ الدَّهْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ خُصَّتْ بِالْمُعْجِزَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَاقِيَةِ لِيَرَاهَا ذَوُو الْبَصَائِرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيَتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارِهِمْ فَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَرْقُهُ الْعَادَةَ فِي أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ إِلَّا وَيَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةَ الْمَاضِيَةَ كَانَتْ حِسِّيَّةً تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ تُشَاهَدُ بِالْبَصِيرَةِ فَيَكُونُ مَنْ يَتْبَعُهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَرَ، لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الرَّأْسِ يَنْقَرِضُ بِانْقِرَاضِ مُشَاهِدِهِ، وَالَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الْعَقْلِ بَاقٍ، يُشَاهِدُهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَيُمْكِنُ نَظْمُ الْقَوْلَيْنِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ مُحَصِّلَهُمَا لَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى مُعْجِزٌ لَمْ يَقْدِرْ وَاحِدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَة: 6]. فَلَوْلَا أَنَّ سَمَاعَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقِفْ أَمْرُهُ عَلَى سَمَاعِهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا وَهُوَ مُعْجِزَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الْعَنْكَبُوت: 50، 51]. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ، قَائِمٌ مَقَامَ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِ وَآيَاتِ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَمَصَاقِعَ الْخُطَبَاءِ، وَتَحَدَّاهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَأَمْهَلَهُمْ طُولَ السِّنِينَ فَلَمْ يَقْدِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [يُونُسَ: 38] ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هُودٍ: 13، 14]. ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ فِي قَوْلِه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 38]، ثُمَّ كَرَّرَ فِي قَوْلِه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 23]، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ تُشْبِهُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْخُطَبَاءِ وَالْبُلَغَاءِ نَادَى عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ الْعَجْزِ، وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاء: 88]. هَذَا وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ، وَقَدْ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ وَإِخْفَاءِ أَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ فِي مَقْدِرَتِهِمْ مُعَارَضَتُهُ لَعَدَلُوا إِلَيْهَا قَطْعًا لِلْحُجَّةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَامَهُ، بَلْ عَدَلُوا إِلَى الْعِنَادِ تَارَةً، وَإِلَى الِاسْتِهْزَاءِ أُخْرَى، فَتَارَةً قَالُوا: سِحْرٌ، وَتَارَةً قَالُوا: شِعْرٌ، وَتَارَةً قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. كُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالِانْقِطَاعِ ثُمَّ رَضُوا بِتَحْكِيمِ السَّيْفِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَاسْتِبَاحَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا آنَفَ شَيْءٍ، وَأَشُدَّهُ حَمِيَّةً فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ فِي قُدْرَتِهِمْ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ. كَيْفَ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ مِنِّي، وَلَا بِرَجَزِهِ، وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْجَاحِظُ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ شَاعِرًا وَخَطِيبًا، وَأَحْكَمَ مَا كَانَتْ لُغَةً وَأَشَدَّ مَا كَانَتْ عُدَّةً، فَدَعَا أَقْصَاهَا وَأَدْنَاهَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رِسَالَتِهِ، فَدَعَاهُمْ بِالْحُجَّةِ فَلَمَّا قَطَعَ الْعُذْرَ، وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ وَصَارَ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةُ، دُونَ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، حَمَلَهُمْ عَلَى حَظِّهِمْ بِالسَّيْفِ، فَنَصَبَ لَهُمُ الْحَرْبَ وَنَصَبُوا لَهُ، وَقَتَلَ مِنْ عِلْيَتِهِمْ وَأَعْلَامِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَبَنِي أَعْمَامِهِمْ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَدْعُوهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِآيَاتٍ يَسِيرَةٍ. فَكُلَّمَا ازْدَادَ تَحَدِّيًا لَهُمْ بِهَا وَتَقْرِيعًا لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا تَكَشَّفَ مِنْ نَقْصِهِمْ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَظَهَرَ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا، فَحِينَ لَمْ يَجِدُوا حِيلَةً وَلَا حُجَّةً قَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ مَا لَا نَعْرِفُ، فَلِذَلِكَ يُمْكِنُكَ مَا لَا يُمْكِنُنَا قَالَ: فَهَاتُوهَا مُفْتَرِيَاتٍ فَلَمْ يَرُمْ ذَلِكَ خَطِيبٌ وَلَا طَمَعَ فِيهِ شَاعِرٌ، وَلَوْ طَمَعَ فِيهِ لَتَكَلَّفَهُ، وَلَوْ تَكَلَّفَهُ لَظَهَرَ ذَلِكَ وَلَوْ ظَهَرَ لَوَجَدَ مَنْ يَسْتَجِيدُهُ وَيُحَامِي عَلَيْهِ، وَيُكَايِدُ فِيهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ وَقَابَلَ وَنَاقَضَ. فَدَلَّ ذَلِكَ الْعَاقِلُ عَلَى عَجْزِ الْقَوْمِ مَعَ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ وَاسْتِحَالَةِ لُغَتِهِمْ، وَسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَثْرَةِ شُعَرَائِهِمْ، وَكَثْرَةِ مَنْ هَجَاهُ مِنْهُمْ، وَعَارَضَ شُعَرَاءَ أَصْحَابِهِ، وَخُطَبَاءَ أُمَّتِهِ لِأَنَّ سُورَةً وَاحِدَةً وَآيَاتٍ يَسِيرَةً كَانَتْ أَنْقَضَ لِقَوْلِهِ، وَأَفْسَدَ لِأَمْرِهِ، وَأَبْلَغَ فِي تَكْذِيبِهِ وَأَسْرَعَ فِي تَفْرِيقِ أَتْبَاعِهِ مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ. وَهَذَا مِنْ جَلِيلِ التَّدْبِيرِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ قُرَيْشٍ، وَالْعَرَبِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ بِطَبَقَاتٍ، وَلَهُمُ الْقَصِيدُ الْعَجِيبُ، وَالرَّجَزُ الْفَاخِرُ، وَالْخُطَبُ الطِّوَالُ الْبَلِيغَةُ، وَالْقِصَارُ الْمُوجَزَةُ، وَلَهُمُ الْأَسْجَاعُ وَالْمُزْدَوَجُ وَاللَّفْظُ الْمَنْثُورُ. ثُمَّ يَتَحَدَّى بِهِ أَقْصَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ عَجْزَ أَدْنَاهُمْ، فَمُحَالٌ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ- أَنْ يَجْتَمِعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ، وَالْخَطَأِ الْمَكْشُوفِ الْبَيِّنِ مَعَ التَّقْرِيعِ بِالنَّقْصِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْعَجْزِ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ أَنَفَةً، وَأَكْثَرُهُمْ مُفَاخَرَةً، وَالْكَلَامُ سَيِّدُ عَمَلِهِمْ، وَقَدِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ وَالْحَاجَةُ تَبْعَثُ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الْأَمْرِ الْغَامِضِ، فَكَيْفَ بِالظَّاهِرِ، وَكَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُطْبِقُوا ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى الْغَلَطِ فِي الْأَمْرِ الْجَلِيلِ الْمَنْفَعَةِ، فَكَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يَتْرُكُوهُ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَجِدُونَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ وَهُمْ يَبْذُلُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ. انْتَهَى.
لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ الِاهْتِمَامُ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ، وَقَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا فَبَيْنَ مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ. فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الذَّاتِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ كُلِّفَتْ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُطَاقُ، وَبِهِ وَقَعَ عَجْزُهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ التَّحَدِّيَ بِهِ. وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ وَقَعَ بِالدَّالِّ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ، ثُمَّ زَعَمَ النَّظَّامُ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِالصِّرْفَةِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ عُقُولَهُمْ، وَكَانَ مَقْدُورًا لَهُمْ لَكِنْ عَاقَهُمْ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِدَلِيلِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 88] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ مَعَ بَقَاءِ قُدْرَتِهِمْ وَلَوْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ لَمْ تَبْقَ فَائِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمْ لِمَنْزِلَتِهِ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَيْسَ عَجْزُ الْمَوْتَى مِمَّا يُحْتَفَلُ بِذِكْرِهِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِضَافَةِ الْإِعْجَازِ إِلَى الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ إِعْجَازٍ بَلِ الْمُعْجِزُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، حَيْثُ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالصِّرْفَةِ زَوَالُ الْإِعْجَازِ بِزَوَالِ زَمَانِ التَّحَدِّي، وَخُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَفِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ مُعْجِزَةً الرَّسُولِ الْعُظْمَى بَاقِيَةٌ، وَلَا مُعْجِزَةَ بَاقِيَةً سِوَى الْقُرْآنِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصِّرْفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا الصِّرْفَةُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مُعْجِزًا، فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ بِهِ، وَلَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ آخَرِينَ: إِنَّ الْعَجْزَ وَقَعَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا مَنْ بَعْدَهُمْ فَفِي قُدْرَتِهِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَقَوْلِه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آلِ عِمْرَانَ: 122]. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} [الْمُجَادَلَة: 8]. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ، قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ. قَالَ: وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي الشِّعْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ بِهِ، كَقَوْلِ الشِّعْرِ، وَرَصْفِ الْخُطَبِ وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ، وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَهُ طَرِيقٌ تُسْلَكُ فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى، وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا، قَالَ: وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ، وَفِي بَعْضِهِ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: وَجْهُ الْإِعْجَازِ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ. وَقَالَ الزَّمَلْكَانِيُّ: وَجْهُ الْإِعْجَازِ رَاجِعٌ إِلَى التَّأْلِيفِ الْخَاصِّ بِهِ لَا مُطْلَقِ التَّأْلِيفِ بِأَنِ اعْتَدَلَتْ مُفْرَدَاتُهُ تَرْكِيبًا وَزِنَةً، وَعَلَتْ مُرَكَّبَاتُهُ مَعْنًى بِأَنْ يُوقَعَ كُلُّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْحُذَّاقُ فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ أَنَّهُ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا فَإِذَا تَرَتَّبَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، عُلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيُّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ , وَالْبَشَرُ يَعُمُّهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ. وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحِيطُ بِذَلِكَ، فَبِهَذَا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْفَصَاحَةِ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ فِي قُدْرَتِهَا الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَصُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ قَطُّ، وَلِهَذَا تَرَى الْبَلِيغَ يُنَقِّحُ الْقَصِيدَةَ أَوِ الْخُطْبَةَ حَوْلًا ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهَا فَيُغَيِّرُ فِيهَا وَهَلُمَّ جَرًّا، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ نُزِعَتْ مِنْهُ لَفْظَةٌ ثُمَّ أُدِيرَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَلَى لَفْظَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ، وَنَحْنُ تَتَبَيَّنُ لَنَا الْبَرَاعَةُ فِي أَكْثَرِهِ، وَيَخْفَى عَلَيْنَا وَجْهُهَا فِي مَوَاضِعَ لِقُصُورِنَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ فِي سَلَامَةِ الذَّوْقِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ. وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَالَمِ بِالْعَرَبِ إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ، وَمَظَنَّةَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي مُعْجِزَةِ مُوسَى بِالسَّحَرَةِ، وَفِي مُعْجِزَةِ عِيسَى بِالْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إِظْهَارَهُ، فَكَانَ السِّحْرُ قَدِ انْتَهَى فِي مُدَّةِ مُوسَى إِلَى غَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ الطِّبُّ فِي زَمَنِ عِيسَى وَالْفَصَاحَةُ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجٍ الْبُلَغَاء: وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا يُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ، إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ، ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ، فَيَنْقَطِعُ طَيِّبُ الْكَلَامِ وَرَوْنَقُهُ، فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُرَّاكِشِيُّ فِي شَرْحِ الْمِصْبَاح: الْجِهَةُ الْمُعْجِزَةُ فِي الْقُرْآنِ تُعْرَفُ بِالتَّفَكُّرِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنِ الْخَطَأِ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى، وَعَنْ تَعْقِيدِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الْكَلَامِ بَعْدَ رِعَايَةِ تَطْبِيقِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ; لِأَنَّ جِهَةَ إِعْجَازِهِ لَيْسَتْ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَإِلَّا لَكَانَتْ قَبْلَ نُزُولِهِ مُعْجِزَةً، وَلَا مُجَرَّدَ تَأْلِيفِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ تَأْلِيفٍ مُعْجِزًا، وَلَا إِعْرَابَهَا وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ مُعْرَبٍ مُعْجِزًا، وَلَا مُجَرَّدَ أُسْلُوبِهِ وَإِلَّا لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأُسْلُوبِ الشِّعْرِ مُعْجِزًا، وَالْأُسْلُوبُ الطَّرِيقُ، وَلَكَانَ هَذَيَانُ مُسَيْلِمَةَ مُعْجِزًا، وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ يُوجَدُ دُونَهُ أَي: الْأُسْلُوبَ فِي نَحْو: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يُوسُفَ: 80]. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94]. وَلَا بِالصَّرْفِ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ; لِأَنَّ تَعَجُّبَهُمْ كَانَ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَلِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ وَابْنَ الْمُقَفَّعِ وَالْمَعَرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ قَدْ تَعَاطَوْهَا، فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِمَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ، وَيُضْحَكُ مِنْهُ فِي أَحْوَالِ تَرْكِيبِهِ، وَبِهَا- أَيْ: بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ- أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ وَأَخْرَسَ الْفُصَحَاءَ، فَعَلَى إِعْجَازِهِ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ عَجَزَتْ عَنْهُ وَهُوَ بِلِسَانِهَا فَغَيْرُهَا أَحْرَى، وَدَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ مُقَدِّمَتُهُ التَّفَكُّرُ فِي خَوَاصِّ تَرْكِيبِهِ، وَنَتِيجَتُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَالَ الْأَصْبِهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِه: اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا إِعْجَازٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. فَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ. أَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِعُنْصُرِهِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ أَلْفَاظَهُ أَلْفَاظُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} [الشُّعَرَاء: 195]. وَلَا بِمَعَانِيهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشُّعَرَاء: 196]. وَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، فَإِعْجَازٌ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْآنٌ، بَلْ لِكَوْنِهَا حَاصِلَةٌ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْلِيمٍ وَتَعَلُّمٍ، وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ سَوَاءً كَانَ بِهَذَا النَّظْمِ أَوْ بِغَيْرِهِ، مُورَدًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى، بِعِبَارَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ، فَإِذًا النَّظْمُ الْمَخْصُوصُ صُورَةُ الْقُرْآنِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى عُنْصُرُهُ، وَبِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّيْءِ وَاسْمُهُ، لَا بِعُنْصُرِهِ كَالْخَاتَمِ وَالْقُرْطِ وَالسُّوَارِ، فَإِنَّهُ بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا، لَا بِعُنْصُرِهَا الَّذِي هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَدِيدُِ، فَإِنَّ الْخَاتَمَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الْفِضَّةِ وَمِنَ الْحَدِيدِ يُسَمَّى خَاتَمًا، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ مُخْتَلِفًا، وَإِنِ اتُّخِذَ خَاتَمٌ وَقُرْطٌ وَسُوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ وَاحِدًا. قَالَ: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْجَازَ الْمُخْتَصَّ بِالْقُرْآنِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ الْمَخْصُوصِ، وَبَيَانَ كَوْنِ النَّظْمِ مُعْجِزًا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ نَظْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ بَيَانِ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ مَا عَدَاهُ، فَنَقُولُ: مَرَاتِبُ تَأْلِيفِ الْكَلَامِ خَمْسٌ: الْأُولَى: ضَمُّ الْحُرُوفِ الْمَبْسُوطَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ لِتَحْصُلَ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ: الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ. وَالثَّانِيَةُ: تَأْلِيفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، لِتَحْصُلَ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ، وَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْثُورُ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّالِثَةُ: ضَمُّ بَعْضِ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ ضَمًّا لَهُ مَبَادٍ وَمَقَاطِعُ، وَمَدَاخِلُ وَمَخَارِجُ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْظُومُ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ تَسْجِيعٌ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُسَجَّعُ. وَالْخَامِسَةُ: أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ وَزْنٌ، وَيُقَالَ لَهُ: الشِّعْرُ. وَالْمَنْظُومُ إِمَّا مُحَاوَرَةٌ وَيُقَالُ لَهُ: الْخَطَابَةُ، وَإِمَّا مُكَاتَبَةٌ وَيُقَالُ لَهُ: الرِّسَالَةُ. فَأَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نَظْمٌ مَخْصُوصٌ، وَالْقُرْآنُ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْجَمِيعِ عَلَى نَظْمٍ غَيْرِ نَظْمِ شَيْءٍ مِنْهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: رِسَالَةٌ، أَوْ خَطَابَةٌ، أَوْ شِعْرٌ، أَوْ سَجْعٌ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامٌ وَالْبَلِيغُ إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنَ النَّظْمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 41، 42]. تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَهُ لَيْسَ عَلَى هَيْئَةِ نَظْمٍ يَتَعَاطَاهُ الْبَشَرُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّرَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَحَالَةِ الْكُتُبِ الْأُخَرِ. قَالَ: وَأَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَظَاهِرٌ أَيْضًا إِذَا اعْتُبِرَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ صِنَاعَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَتْ أَوْ مَذْمُومَةٍ إِلَّا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مُنَاسَبَاتٌ خَفِيَّةٌ، وَاتِّفَاقَاتٌ حَمْلِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُؤْثِرُ حِرْفَةً مِنَ الْحِرَفِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِمُلَابَسَتِهَا، وَتُطِيعُهُ قُوَاهُ فِي مُبَاشَرَتِهَا فَيَقْبَلُهَا بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَيُزَاوِلُهَا بِاتِّسَاعِ قَلْبٍ، فَلَمَّا دَعَا اللَّهُ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَالْخَطَابَةِ الَّذِينَ يَهِيمُونَ فِي كُلِّ وَادٍ مِنَ الْمَعَانِي بِسَلَاطَةِ لِسَانِهِمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَتَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ أَنَّ صَارِفًا إِلَهِيًّا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَيُّ إِعْجَازٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافَّةُ الْبُلَغَاءِ عَجَزَةً فِي الظَّاهِرِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَصْرُوفَةً فِي الْبَاطِنِ عَنْهَا انْتَهَى. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاح: اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، وَكَالْمَلَاحَةِ، وَكَمَا يُدْرَكُ طَيِّبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ، وَلَا يُدْرَكُ تَحْصِيلُهُ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمْرِينِ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ: سُئِلَ بُنْدَارٌ الْفَارِسِيُّ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ: مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ، وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ فِيهِ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ، وَمُعْجِزَةً لِمُحَاوَلِهِ، وَهُدًى لِقَائِلِهِ، وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ، وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ، فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ. قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الْقَرِيبُ السَّهْلُ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ، وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ. فَالْأَوَّلُ أَعْلَاهَا وَالثَّانِي أَوْسَطُهَا وَالثَّالِثُ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا. فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً، وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً فَانْتَظَمَ لَهَا بِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ، لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ، وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الزُّعُورَةِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ. مِنْهَا: أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا، وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَيَتَوَاصَلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَة: لَفْظٌ حَاصِلٌ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا، وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مِنْ نَظْمِهِ. وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ فِي أَبْوَابِهِ وَالتَّرَقِّي إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِ. وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ: فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا; لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ، مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَدُعَائِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا، وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ، مُودَعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ مَضَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ، مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبِلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْآتِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ، جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ، وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا عَلَيْهِ، وَإِنْبَاءٍ عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتُنَسَّقَ أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ، وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ، فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، أَوْ مُنَاقَضَتِهِ فِي شَكْلِهِ، ثُمَّ صَارَ الْمُعَانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً: إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا، وَمَرَّةً أَنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقُلُوبِ وَقَرْعًا فِي النُّفُوسِ يُرْهِبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَكَانُوا مَرَّةً بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَان: 5]. مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ، وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالِ ذَوِي الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ آخَرَ، مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْحَشْر: 21]. وَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَر: 23]. وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَجْهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهًا كَثِيرَةً كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَمَا بَلَغُوا فِي وُجُوهِ إِعْجَازِهِ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْ عُشْرِ مِعْشَارِهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْإِيجَازُ مَعَ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْبَيَانُ وَالْفَصَاحَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الرَّصْفُ وَالنَّظْمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ جِنْسِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ مَعَ كَوْنِ حُرُوفِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَمَعَانِيهِ فِي خِطَابِهِمْ، وَأَلْفَاظِهِ مِنْ جِنْسِ كَلِمَاتِهِمْ، وَهُوَ بِذَاتِهِ قَبِيلٌ غَيْرُ قَبِيلِ كَلَامِهِمْ، وَجِنْسٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ أَجْنَاسِ خِطَابِهِمْ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَعَانِيهِ، وَغَيَّرَ حُرُوفَهُ أَذْهَبَ رَوْنَقَهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى حُرُوفِهِ وَغَيَّرَ مَعَانِيهِ، أَبْطَلَ فَائِدَتَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغَ دَلَالَةً عَلَى إِعْجَازِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَوْنُ قَارِئِهِ لَا يَكِلُّ، وَسَامِعُهُ لَا يَمَلُّ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِ تِلَاوَتُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ بِالْقَطْعِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَوْنُهُ جَامِعًا لِعُلُومٍ يَطُولُ شَرْحُهَا وَيَشُقُّ حَصْرُهَا. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: أَهْلُ التَّحْقِيقِ عَلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ، لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنَّهُ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَا مَعْنًى لِنِسْبَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، بَلْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَسْبِقُ. فَمِنْهَا: الرَّوْعَةُ الَّتِي لَهُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسْمَاعِهِمْ، سَوَاءٌ الْمُقِرُّ وَالْجَاحِدُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا فِي أَسْمَاعِ السَّامِعِينَ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْقَارِئِينَ. وَمِنْهَا: جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فِي كَلَامِ الْبَشَرِ. وَمِنْهَا: جَعْلُهُ آخِرُ الْكُتُبِ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، وَجَعْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النَّمْل: 76]. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: وُجُوهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَاتِ تَرْكِ الْمُعَارَضَةِ، مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَالتَّحَدِّي لِلْكَافَّةِ، وَالصِّرْفَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَنَقْضِ الْعَادَةِ، وَقِيَاسِهِ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ. قَالَ: وَنَقْضُ الْعَادَةِ هُوَ أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ جَارِيَةً بِضُرُوبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْرُوفَةٍ: مِنْهَا الشِّعْرُ، وَمِنْهَا السَّجْعُ، وَمِنْهَا الْخُطَبُ، وَمِنْهَا الرَّسَائِلُ، وَمِنْهَا الْمَنْثُورُ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ، فَأَتَى الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مُفْرَدَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْعَادَةِ لَهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْحُسْنِ تَفُوقُ بِهِ كُلَّ طَرِيقَةٍ، وَيَفُوقُ الْمَوْزُونُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْكَلَامِ. قَالَ: وَأَمَّا قِيَاسُهُ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ إِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِذَا كَانَ سَبِيلُ فَلْقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فِي ذَلِكَ سَبِيلًا وَاحِدًا فِي الْإِعْجَازِ، إِذْ خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ، وَصَدَّ الْخَلْقَ فِيهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ وَتَحْصِيلُهَا مِنْ جِهَةِ ضَبْطِ أَنْوَاعِهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ وَفَصَاحَتُهُ، وَوُجُوهُ إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ فُرْسَانُ الْكَلَامِ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ. وَالثَّانِي: صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهَاجِ نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَقَاطِعُ آيَاتِهِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ. قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ بِذَاتِهَا، وَالْأُسْلُوبِ الْغَرِيبِ بِذَاتِهِ، نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ. الثَّالِثُ: مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَوُجِدَ كَمَا وَرَدَ. الرَّابِعُ: مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالشَّرَائِعِ الدَّائِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمْرَهُ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ، فَيُورِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. قَالَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا. وَمِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِهِ غَيْرُ ذَلِكَ أَيْ: وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لِلْيَهُود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [الْبَقَرَة: 94، 95]. فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ. وَمِنْهَا: الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ، وَقَدْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} إِلَى قَوْلِه: الْمُصَيْطِرُونَ [الطُّور: 35- 37]. كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ، قَالَ: وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي. وَقَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لَا يُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَعَ مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ، وَسَامِعُهُ لَا يَمُجُّهُ، بَلْ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ يُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَيُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ، وَلِهَذَا وَصَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ: «لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ». وَمِنْهَا: جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ يَجْمَعْهَا كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ وَلَا أَحَاطَ بِعِلْمِهَا أَحَدٌ فِي كَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَأَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ. قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي بَلَاغَتِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُفْرَدًا فِي إِعْجَازِهِ. قَالَ: وَالْأَوْجُهُ الَّتِي قَبْلَهَا تُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ وَفَضَائِلِهِ لَا إِعْجَازِهِ، وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهَا انْتَهَى.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ تَرُدُّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَعَلَّقُ الْإِعْجَازُ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَصِيرَةٍ تَشَبُّثًا بِظَاهِرِ قَوْلِه: بِسُورَةٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَتَعَلَّقُ بِسُورَةٍ أَوْ قَدْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ فِيهِ تُفَاضُلُ قُوَى الْبَلَاغَةِ، قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ آيَةٌ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ فَذَلِكَ مُعْجِزٌ. قَالَ: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَحْصُلُ الْإِعْجَازُ بِآيَةٍ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَعَلَّقُ بِقَلِيلِ الْقُرْآنِ وَكَثِيرِهِ لِقَوْلِه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّور: 34]. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ. الثَّانِي: اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً؟ قَالَ الْقَاضِي: فَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَكَوْنُهُ مُعْجِزًا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ إِعْجَازَهُ إِلَّا اسْتِدْلَالًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِبَلِيغٍ، فَأَمَّا الْبَلِيغُ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِمَذَاهِبِ الْعَرَبِ وَغَرَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ عَجْزِهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. الثَّالِثُ: اخْتُلِفَ فِي تَفَاوُتِ الْقُرْآنِ فِي مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي التَّرَاكِيبِ مَا هُوَ أَشَدُّ تَنَاسُبًا وَلَا اعْتِدَالًا فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُ. فَاخْتَارَ الْقَاضِي الْمَنْعَ، وَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ فِيهِ مَوْصُوفَةٌ بِالذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ. وَاخْتَارَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ التَّفَاوُتَ فَقَالَ: لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: فِي الْقُرْآنِ الْأَفْصَحُ وَالْفَصِيحُ، وَإِلَى هَذَا نَحَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ جَمِيعُهُ بِالْأَفْصَحِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الصَّدْرُ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ عَلَى غَيْرِ النَّمَطِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ، فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فِي الْإِعْجَازِ، فَجَاءَ عَلَى نَمَطِ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ، لِيَتِمَّ ظُهُورُ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَلَا يَقُولُوا مَثَلًا: أَتَيْتَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى جِنْسِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْبَصِيرِ أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْمَى: قَدْ غَلَبْتُكَ بِنَظَرِي، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا تَتِمُّ لَكَ الْغَلَبَةُ لَوْ كُنْتُ قَادِرًا عَلَى النَّظَرِ، وَكَانَ نَظَرُكَ أَقْوَى مِنْ نَظَرِي، وَأَمَّا إِذَا فُقِدَ أَصْلُ النَّظَرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنِّي الْمُعَارَضَةُ. الرَّابِعُ: قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الشِّعْرِ الْمَوْزُونِ مَعَ أَنَّ الْمَوْزُونَ مِنَ الْكَلَامِ رُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ غَيْرِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَنْبَعُ الْحَقِّ، وَمَجْمَعُ الصِّدْقِ، وَقُصَارَى أَمْرِ الشَّاعِرِ التَّخْيِيلُ بِتَصَوُّرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَالْإِفْرَاطُ فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ، وَالْإِيذَاءُ دُونَ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتِ الصِّدْقِ، وَلِهَذَا نَزَّهَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْهُ، وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ الشِّعْرِ بِالْكَذِبِ سَمَّى أَصْحَابُ الْبُرْهَانِ الْقِيَاسَاتِ الْمُؤَدِّيَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى الْبُطْلَانِ وَالْكَذِبِ شِعْرِيَّةً. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاء: لَمْ يُرَ مُتَدَيِّنٌ صَادِقُ اللَّهْجَةِ، مُفْلِقًا فِي شِعْرِهِ. وَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَوْزُونِ، مِنَ الشِّعْرِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى شِعْرًا، لِأَنَّ شَرْطَ الشِّعْرِ الْقَصْدُ وَلَوْ كَانَ شِعْرًا لَكَانَ كُلُّ مَنِ اتَّفَقَ لَهُ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مَوْزُونٌ شَاعِرًا، فَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ شُعَرَاءَ، لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ كَلَامُ أَحَدٍ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَلَى الْفُصَحَاءِ فَلَوِ اعْتَقَدُوهُ شِعْرًا لَبَادَرُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِبُلُوغِ الْغَايَةِ الْقُصْوَى فِي الِانْسِجَامِ. وَقِيلَ: الْبَيْتُ الْوَاحِدُ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ لَا يُسَمَّى شِعْرًا، وَأَقَلُّ الشَّعْرِ بَيْتَانِ فَصَاعِدًا. وَقِيلَ: الرَّجَزُ لَا يُسَمَّى شِعْرًا أَصْلًا. وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجَزِ شِعْرًا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِحَالٍ. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمُ: التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا فِي قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الْإِسْرَاء: 88]. تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ، لِأَنَّ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ، فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ الثَّقَلَيْنِ فِيهِ، وَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ أَعْجَزَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ وَقَعَ لِلْجِنِّ أَيْضًا وَالْمَلَائِكَةُ مَنْوِيُّونَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَيْضًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِ التَّفْسِير: إِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ. السَّادِسُ: سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82]. فَأَجَابَ: الِاخْتِلَافُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، بَلْ نَفْيُ الِاخْتِلَافِ عَنْ ذَاتِ الْقُرْآنِ. وَيُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِفٌ: أَيْ: لَا يُشْبِهُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ فِي الْفَصَاحَةِ، أَوْ هُوَ مُخْتَلِفُ الدَّعْوَة: أَيْ: بَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ، وَبَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ مُخْتَلِفُ النَّظْمِ، فَبَعْضُهُ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، وَبَعْضُهُ مُنْزَحِفٌ وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجَزَالَةِ، وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَإِنَّهُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ مُنَاسِبٌ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَعَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَلَيْسَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَمَسُوقٌ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفِهِمْ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ. وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ، إِذْ كَلَامُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ إِذَا قِيسَ عَلَيْهِ، وُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مِنْهَاجِ النَّظْمِ، ثُمَّ اخْتِلَافٌ فِي دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، فَلَا تَتَسَاوَى رِسَالَتَانِ وَلَا قَصِيدَتَانِ، بَلْ تَشْتَمِلُ قَصِيدَةٌ عَلَى أَبْيَاتٍ فَصَيْحَةٍ وَأَبْيَاتٍ سَخِيفَةٍ، وَكَذَلِكَ تَشْتَمِلُ الْقَصَائِدُ وَالْأَشْعَارُ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ وَالْفُصَحَاءَ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، فَتَارَةً يَمْدَحُونَ الدُّنْيَا وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الْجُبْنَ وَيُسَمُّونَهُ حَزْمًا، وَتَارَةً يَذُمُّونَهُ وَيُسَمُّونَهُ ضَعْفًا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الشَّجَاعَةَ وَيُسَمُّونَهَا صَرَامَةً، وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا تَهَوُّرًا، وَلَا يَنْفَكُّ كَلَامٌ آدَمِيٌّ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ; لِأَنَّ مَنْشَأَهَا اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ بِالْأَحْوَالِ، وَالْإِنْسَانُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَتُسَاعِدُهُ الْفَصَاحَةُ عِنْدَ انْبِسَاطِ الطَّبْعِ وَفَرَحِهِ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِانْقِبَاضِ، وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَغْرَاضُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً، وَيَمِيلُ عَنْهُ أُخْرَى، فَيُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي كَلَامِهِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُصَادِفُ إِنْسَانٌ يَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. السَّابِعُ: قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ هَلْ تَقُولُونَ إِنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مُعْجِزًا كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُعْجِزٍ فِي النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا كَالْقُرْآنِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَصِفْهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّحَدِّي إِلَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ اللِّسَانَ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّفَاضُلُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ فِي قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65]. أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِي لِغَرَضَيْن: أَحَدُهُمَا لَفْظِيٌّ وَهُوَ الْمُزَاوَجَةُ لِرُءُوسِ الْآيِ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عَلَى مُوسَى، فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ، فَنَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبَ مِنْ صَنْعَةِ الْكَلَامِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ إِنَّمَا هُوَ مُعْرِبٌ عَنْ مَعَانِيهِمْ، وَلَيْسَ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63]. أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ. الثَّامِنُ: قَالَ الْبَارِزِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنْوَارُ التَّحْصِيلِ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيل: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ قَدْ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَفْصَحِ مَا يُلَائِمُ الْجُزْءَ الْآخَرَ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِحْضَارِ مَعَانِي الْجُمَلِ أَوِ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ مَا يُلَائِمُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ اسْتِعْمَالِ أَنْسَبِهَا وَأَفْصَحِهَا وَاسْتِحْضَارُ هَذَا مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْبَشَرِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ عَتِيدٌ حَاصِلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَفْصَحَهُ مَا السِّرُّ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَصِيحِ وَالْأَفْصَحِ، وَالْمَلِيحِ وَالْأَمْلَحِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرَّحْمَن: 54]. لَوْ قَالَ مَكَانَهُ: (وَثَمَرُ الْجَنَّتَيْنِ قَرِيبٌ) لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ مِنْ جِهَةِ الْجِنَاسِ بَيْنَ الْجَنَى وَالْجَنَّتَيْنِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الثَّمَرَ لَا يُشْعِرُ بِمَصِيرِهِ إِلَى حَالٍ يُجْنَى فِيهَا، وَمِنْ جِهَةِ مُؤَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [الْعَنْكَبُوت: 48]. أَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِـ(تَقْرَأُ) لِثِقْلِهِ بِالْهَمْزَةِ. وَمِنْهَا {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2]. أَحْسَنُ مِنْ (لَا شَكَّ فِيهِ)، لِثِقَلِ الْإِدْغَامِ، وَلِهَذَا كَثُرَ ذِكْرُ الرَّيْبِ. وَمِنْهَا {وَلَا تَهِنُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 139]. أَحْسَنُ مِنْ (وَلَا تَضْعُفُوا) لِخِفَّتِهِ، وَ{وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مَرْيَمَ: 4]. أَحْسَنُ مِنْ ضَعُفَ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ أَخَفُّ مِنَ الضَّمَّةِ. وَمِنْهَا (آمَنَ) [الْبَقَرَة: 62]. أَخَفُّ مِنْ صَدَّقَ، وَلِذَا كَانَ ذِكْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ التَّصْدِيقِ، وَ{آثَرَكَ اللَّهُ} [يُوسُفَ: 91]. أَخَفُّ مِنْ فَضَّلَكَ، وَ آتَى [الْبَقَرَة: 177]. أَخَفُّ مِنْ أَعْطَى، وَ(أَنْذَرَ) [الْأَحْقَاف: 21]. أَخَفُّ مِنْ خَوَّفَ، وَ{خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 184]. أَخَفُّ مِنْ (أَفْضَلُ لَكُمْ)، وَالْمَصْدَرُ فِي نَحْو: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لُقْمَانَ: 11]. {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَة: 3]. أَخَفُّ مِنْ مَخْلُوقِ وَالْغَائِبِ، وَ{تَنْكِحُ} [الْبَقَرَة: 230]. أَخَفُّ مِنْ تَتَزَوَّجُ؛ لِأَنَّ (تَفْعِلُ) أَخَفُّ مِنْ (تَتَفَعَّلَ)، وَلِهَذَا كَانَ ذِكْرُ النِّكَاحِ فِيهِ أَكْثَرَ. وَلِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالِاخْتِصَارِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْحُبِّ وَالْمَقْتِ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَلْفَاظِ الْحَقِيقَةِ لَطَالَ الْكَلَامُ، كَأَنْ يُقَالُ: يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ وَالْمَاقِتِ، فَالْمَجَازُ فِي مِثْلِ هَذَا أَفْضَلُ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِخِفَّتِهِ وَاخْتِصَارِهِ وَابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَإِنَّ قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزُّخْرُف: 55]. أَحْسَنُ مِنْ فَلَمَّا عَامَلُونَا مُعَامَلَةَ الْغَضَبِ، أَوْ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَيْنَا بِمَا يَأْتِيهِ الْمُغْضَبُ انْتَهَى. التَّاسِعُ: قَالَ الرُّمَّانِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَعَلَّ السُّوَرَ الْقِصَارَ يُمْكِنُ فِيهَا الْمُعَارَضَةُ؟ الرَّدُّ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: لَا يَجُوزُ فِيهَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ قَدْ وَقَعَ بِهَا، فَظَهَرَ الْعَجْزُ عَنْهَا فِي قَوْلِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [يُونُسَ: 38]. فَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ الطِّوَالَ دُونَ الْقِصَارِ. فَإِنْ قَالَ: فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْقِصَارِ أَنْ تُغَيَّرَ الْفَوَاصِلُ، فَيُجْعَلُ بَدَلَ كُلِّ كَلِمَةٍ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُعَارَضَةً؟ قِيلَ لَهُ: لَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُفْحَمَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْشِئَ بَيْتًا وَاحِدًا وَلَا يَفْصِلَ بِطَبْعِهِ بَيْنَ مَكْسُورٍ وَمَوْزُونٍ فَلَوْ أَنَّ مُفْحَمًا رَامَ أَنْ يَجْعَلَ بَدَلَ قَوَافِي قَصِيدَةِ رُؤْبَةَ: وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ *** مُشْتَبِهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَقْ بِكُلِّ وَفْدِ الرِّيحِ مِنْ حَيْثُ انْخَرَقْ *** فَجَعَلَ بَدَلَ الْمُخْتَرَقْ: الْمُمَزَّقْ، وَبَدَلَ الْخَفَقْ: الشَّفَقْ، وَبَدَلَ انْخَرَقْ: انْطَلَقْ، لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِهِ قَوْلُ الشِّعْرِ، وَلَا مُعَارَضَةُ رُؤْبَةَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ عِنْدَ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ غَيَّرَ الْفَوَاصِلَ.
|