الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق **
(المسلك الأول) أنه ظهرت معجزات كثيرة على يده صلى اللّه عليه وسلم وأذكر نبذًا منها في هذا المسلك من القرآن والأحاديث الصحيحة بحذف الإسناد وأوردها في نوعين. وقد عرفت في الفصل الثالث من الباب الخامس على أتم تفصيل أنه لا شناعة عقلًا ونقلًا في اعتبار الروايات اللسانية المشتملة على شروط الرواية المعتبرة عند علمائنا رحمهم اللّه تعالى. (أما النوع الأول) ففي بيان أخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم البالية من غير سماع من أحد ولا تلقن من كتاب كما عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من الباب الخامس وقد أشير إليه بقوله تعالى: والمخالفة التي وقعت بين القرآن وكتب أهل الكتاب في بيان بعض هذه القصص فقد عرفت حالها في الفصل الثاني من الباب الخامس في جواب الشبهة الثانية، وأما المستقبلة فكثيرة. عن حذيفة رضي اللّه عنه أنه قال: وقد عرفت في الأمر الثالث من الفصل الأول من الباب الخامس اثنين وعشرين خبرًا من الأخبار المندرجة في القرآن وقال اللّه تعالى: فوعد اللّه المسلمين في هذا القول بأنهم يزلزلون حتى يستقيؤه ويستنصروه. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه:
1- أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر الصحابة بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق. 2- وأن الأمن يظهر حتى ترحل المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا اللّه. 3- وأن خيبر تفتح على يد علي رضي اللّه عنه في غد يومه. 4- وأنهم يقسمون كنوز ملك فارس وملك الروم. 5- وأن بنات فارس تخدمهم. وهذه الأمور كلها وقعت في زمن الصحابة رضي اللّه عنهم كما أخبر. 6- وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة. 7- وأن فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبدًا، والروم ذات قرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن أهل صخر وبحر هيهات آخر الدهر. والمراد بالروم الفرنج والنصارى وكان كما أخبر ما بقي من سلطنة الفرس أثر ما بخلاف الروم، فإن سلطنتهم وإن زالت عن الشام في عهد خلافة عمر رضي اللّه عنه وانهزم هرقل من الشام إلى أقصى بلاده لكن لم تزل سلطنتهم بالكلية بل كلما هلك قرن خلفه قرن آخر. 8- وأن اللّه زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها). والمعنى جمع اللّه لي الأرض مرة واحدة بتقريب بعيدها إلى قريبها حتى اطلعت على ما فيها، وستفتحها أمتي جزءًا فجزءًا حتى تمتلك جميع أجزائها، ولأجل تقييدها بمشارقها ومغاربها انتشرت ملته في المشارق والمغارب ما بين أرض الهند التي هي أقصى المشرق إلى بحر طنجة الذي في أقصى المغرب، ولم تنتشر في الجنوب والشمال مثل انتشارها في المشرق والمغرب، ولعل في إتيانهما بلفظ الجمع، وفي تقديم المشارق، إيماء إلى ما هنالك وإلى ظهور كثرة العلماء منهما بالنسبة إلى غيرهما، وأن علماء المشرق أكثر وأظهر من علماء المغرب. 9- وأنه لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). وفي حديث آخر رواية أبي أمامة: 10- وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيًا وكان كما أخبر، وكان عمر رضي اللّه عنه سد باب الفتنة. 11- وأن المهدي رضي اللّه عنه يظهر. 12- وأن عيسى عليه السلام ينزل. 13- وأن الدجال يخرج. وهذه الأمور الثلاثة ستظهر إن شاء اللّه تعالى واللّه أعلم. 14- أن عثمان يقتل وهو يقرأ في المصحف. 15 - وأن أشقى الآخرين من يصبغ هذه من هذه. يعني لحية علي من دم رأسه، يعني يقتله وهما رضي اللّه عنهما استشهدا كما أخبر. 16- وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية. 17- وأن الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا عضوضًا بعد ذلك) فكانت الخلافة الحقة كذلك بمضي مدة خلافة الحسن بن علي رضي اللّه عنهما، لأن خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يومًا، وخلافة عمر رضي اللّه عنه عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان رضي اللّه عنه إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهرًا وثمانية عشر يومًا، وخلافة علي رضي اللّه عنه أربع سنين وعشرة أشهر وتسعة أيام، وبتمامها خلافة الحسن رضي اللّه عنه. 18- وأن هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش والمراد يزيد وبنو مروان. 19- وأن الأنصار يقلون حتى يكونوا كالملح في الطعام، فلم يزل أمرهم يتفرق حتى لم يبق لهم جماعة. ووقع كما أخبر. 20- وأنه يكون في ثقيف كذاب ومبير أي مهلك، فرأوهما المختار والحجاج. 20- وأن الموتتين أي الوباء والطاعون يكون بعد فتح بيت المقدس، وكان هذا الوباء في خلافة عمر رضي اللّه عنه بعمواس من قرى بيت المقدس، وبها كان عسكره، وهو أول طاعون وقع في الإسلام مات به سبعون ألفًا في ثلاثة أيام. 22- وأنهم يغزون في البحر كالملوك على الأسرة ففي الصحيحين: 23- وأن الإيمان لو كان منوطًا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس وفيه إشارة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة الكوفي رحمه اللّه تعالى أيضًا. 24- وأن فاطمة أول أهله لحوقًا به فماتت رضي اللّه عنها بعد ستة أشهر من وفاته صلى اللّه عليه وسلم. 25- 26- وأن أبا ذر يعيش وحيدًا، ويموت. فكان كما أخبر. 27- 28- 29- وقال لسراقة بن جعشم: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ فلما أتى بهما عمر رضي اللّه عنه ألبسهما إياه وقال: الحمد للّه الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. 30- وقال لخالد رضي اللّه عنه حين وجهه لاكيدر: إنك تجده يصيد البقر. فكان كما أخبر. وفي حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه عند الشيخين: وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان ابتداؤها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهورًا اشترك فيه الخاص والعام، ولعدم ظهورها ظهورًا معتدًا إلى يوم الثلاثاء خفي عن البعض وقال ابتداؤها كان ثالث الشهر، وفي يوم الأربعاء ظهرت ظهورًا شديدًا، واشتدت حركتها واضطربت الأرض بمن عليها، وارتفعت الأصوات لخالقها، ودامت آثار الحركة حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلاك وزلزلوا زلزالًا شديدًا فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ثار في الجو دخان متراكم أمره متفاقم ثم شاع النار وعلا حتى غشى الأبصار، فسكنت بقريظة عند قاع التنعيم بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف كشراريف الحصون وأبراج ومآذن، ويرى رجال يقودونها لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور والجبال بين يديه. وكان يأتي المدينة ببركة النبي صلى اللّه عليه وسلم نسيم بارد. وكان انطفاؤها في السابع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج وللشيخ قطب الدين القسطلاني تأليف في بيان حال هذه النار سماه بحمل الإيجاز في الإعجاز بنار الحجاز. فهذا الخبر من الأخبار العظيمة أيضًا لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر بخروج هذه النار قبل ظهورها بمقدار ستمائة وخمسين سنة تقريبًا، وكتب في البخاري قبل ظهورها بمقدار أربعمائة سنة تقريبًا، وصحيح البخاري في غاية درجة القبول من زمان التأليف إلى هذا الحين حتى أخذ تسعون ألف رجل سنده من الإمام المرحوم بلا واسطة في مدة حياته فلا مجال لعناد معاند في تكذيب هذا الخبر الصريح الصادق. وروى مسلم في كتاب الفتن من حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في أمر الدجال من طريق أبي قتادة عن يسير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيري فقال: ألا يا عبد اللّه بن مسعود جاءت الساعة. قال: فقعد وكان متكئًا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة. ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام. فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام ويجتمع لهم أهل الشام. قلت: الروم يعني. قال: نعم. ويكون عند ذلك القتال ردة شديدة أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام فيجعل اللّه الدبرة عليهم (أي الروم) فيقتتلون مقتلة، أما قال: لا يرى مثلها، وأما قال: لم ير مثلها حتى أن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتًا فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسم. فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون الحديث. عصمنا اللّه من فتنة الدجال.
واعلم أن علماء بروتستنت على ما هو عادتهم يغلطون العوام باعتراضات مموهة على الإخبارات المستقبلة المندرجة في القرآن والحديث، فأنقل ههنا بعض الإخبارات المنسوبة إلى الأنبياء الإسرائيلية عليهم السلام عن كتبهم المقدسة ليعلم المخاطب أن اعتراضاتهم ليست بشيء، وليس غرضي سوء الاعتقاد في أقوال الأنبياء عليهم السلام لأنها ليست بثابتة الإسناد إليهم ثبوتًا قطعيًا، بل حكمها حكم الروايات الضعيفة المروية بروايات الآحاد، فالغلط منها ليس بقولهم يقينًا والاعتراض عليه حق فأقول: الأول: الخبر المنقول في الباب السادس من سفر التكوين. والثاني: الخبر المنقول في الآية الثامنة من الباب السابع من كتاب أشعيا. والثالث: الخبر المنقول في الباب التاسع والعشرين من كتاب أرمياء. والرابع: الخبر المندرج في الباب السادس والعشرين من كتاب حزقيال. والخامس: الخبر المندرج في الباب الثامن من كتاب دانيال. والسادس: الخبر المندرج في الباب التاسع من الكتاب المذكور. والسابع: الخبر المندرج في الباب الثاني عشر من الكتاب المذكور. والثامن: الخبر المندرج في الباب السابع من سفر صموئيل الثاني. والتاسع: الخبر المندرج في الآية 39 و 40 من الباب الثاني عشر من إنجيل متى. والعاشر: الخبر المندرج في الآية السابعة والعشرين والثامنة والعشرين من الباب السادس عشر من إنجيل متى. والحادي عشر: الخبر المندرج في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى. والثاني عشر: الخبر المندرج في الباب العاشر من إنجيل متى. وكلها غلط كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول، فإن أراد أحد منهم أن يعترض على أخباره من الإخبارات المستقبلة المندرجة في القرآن والحديث فعليه أن يبين أولًا صحة هذه الإخبارات المندرجة في كتبهم التي أشرت إليها الآن ثم يعترض. وأما النوع الثاني ففي الأفعال التي ظهرت منه عليه السلام على خلاف العادة وهي تزيد على ألف وأكتفي على ذكر أربعين:
1- قال اللّه تعالى في سورة بني إسرائيل: فهذه الآية والأحاديث الصحيحة تدل على أن المعراج كان في اليقظة بالجسد، أما دلالة الأحاديث ففي غاية الظهور، وأما دلالة الآية فلأن لفظ العبد يطلق على مجموع الجسد والروح. قال اللّه تعالى: ولا شك أن المراد في الموضعين من العبد مجموع الروح والجسد، فكذا المراد بالعبد ههنا. ولأن الكفار استبعدوا هذا المعراج وأنكروه وارتد بسماعه ضعفاء المسلمين وافتتنوا به فلو لم يكن المعراج بالجسد وفي اليقظة لما كان سببًا لاستبعاد الكفار وإنكارهم وارتداد ضعفاء المسلمين وافتتانهم. إذ مثل هذا في المنامات لا يعد من المحال ولا يستبعد ولا ينكر ألا ترى أن أحدًا لو ادعى أنه سار في نومه مرة في الشرق ومرة في الغرب وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى، لم ينكره أحد ولم يستبعد، ولا استحالة فيه عقلًا ونقلًا. أما عقلًا فلأن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى اللّه عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادرًا عليه وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة والمعجزات كلها تكون كذلك. وأما نقلًا فلأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك ليس بممتنع عند أهل الكتاب. 1 - قال القسيس وليم اسمت في كتابه المسمى بطريق الأولياء في بيان حال أخنوخ الرسول الذي كان قبل ميلاد المسيح بثلاث آلاف سنة وثلثمائة واثنتين وثمانين سنة هكذا: (أن اللّه نقله حيًا إلى السماء لئلا يرى الموت كما هو مرقوم أنه لم يوجد لأن اللّه نقله فترك الدنيا من غير أن يحمل المرض والوجع والألم والموت ودخل بجسده في ملكوت السماء) انتهى. وقوله كما هو مرقوم إشارة إلى الآية الرابعة والعشرين من الباب الخامس من سفر التكوين. وفي الباب الثاني من سفر الملوك الثاني هكذا: 1 (وكان لما أراد الرب أن يصعد ايليا بالعجاج إلى السماء انطلق ايليا واليسع من الجلجال 11 وبينما هما يسيران ويتكلمان إذ بعجلة من نار وخيل من نار فاقتربت فيما بينهما وصعد ايليا بالعجاج إلى السماء). وقال آدم كلارك المفسر في شرح هذا المقام: (لا شك أن إيليا رفع إلى السماء حيًا) انتهى كلامه. والآية التاسعة عشر من الباب السادس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (ثم الرب بعد ما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين اللّه). وقال بولس في حال معراجه في الباب الثاني عشر من رسالته الثانية إلى أهل قورنيثوس هكذا: 2 (أعرف إنسانًا في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم اللّه يعلم اختطف هذا إلى السماء الثالثة 3 وأعرف هذا الإنسان أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم اللّه يعلم أنه اختطف إلى الفردوس 4 وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها) فادعى معراجه إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس وبسماع كلمات لا ينطق بها، وليس لإنسان أن يتكلم بها 5 وقال يوحنا في الباب الرابع من المكاشفات 1 (وبعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم قائلًا اصعد إلى ههنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا 2 وللوقت صرت في الروح وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس). فهذه الأمور مسلمة عند المسيحيين فلا مجال للقسيسين أن يعترضوا على معراج النبي صلى اللّه عليه وسلم عقلًا أو نقلًا. نعم يرد عليهم أنه لا وجود للسماوات على حكم علم الهيئة الجديد، فكيف يصدق عندهم أن أخنوخ وإيليا والمسيح عليهم السلام رفعوا إلى السماء وجلس المسيح على يمين اللّه واختطف مقدسهم إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس. وقد عرفنا مطهر البابويين وجهنمهم كما مر في الفصل الثاني من الباب الخامس لكنا ما عرفنا فردوس المسيحيين أهو على السماء الثالثة الموهومة كأنياب الأغوال عندهم أو فوقها أو هو عبارة عن جهنم كما يفهم بملاحظة الإنجيل وكتاب عقائدهم، لأن المسيح قال للسارق المصلوب معه وقت الصلب إنك اليوم تكون معي في الفردوس. وهم يصرخون في العقيدة الثالثة من عقائدهم أنه نزل إلى جهنم، فإذا لاحظنا الأمرين يعلم أن الفردوس عندهم جهنم. قال جواد بن ساباط في البرهان السادس عشر من المقالة الثانية من كتابه أن القسيس كياروس سألني في حضور المترجمين: ماذا يعتقد المسلمون في معراج محمد صلى اللّه عليه وسلم؟ قلت: إنهم يعتقدون أنه من مكة إلى أورشليم ومنه إلى السماء. قال: لا يمكن صعود الجسم إلى السماء. قلت: سألت بعض المسلمين عنه فأجاب أنه يمكن كما أمكن لجسم عيسى عليه السلام. قال القسيس: لِمَ لَمْ تستدل بامتناع الخرق والالتئام على الأفلاك؟ قلت: استدللت به لكنه أجاب أنهما ممكنان لمحمد صلى اللّه عليه وسلم كما كانا ممكنين لعيسى عليه السلام. قال القسيس: لِمَ لَمْ تقل أن عيسى إله له أن يتصرف ما يشاء في مخلوقاته؟ قلت: قد قلت ذلك لكنه قال أن ألوهية عيسى باطلة لأنه يستحيل أن يطرأ على اللّه علامات العجز كالمضروبية والمصلوبية والموت والدفن. انتهى. ونقل بعض الأحياء أن قسيسًا في بلد بنارس من بلاد الهند كان يقول في بعض المجامع تغليطًا لجهال المسلمين البدويين كيف تعتقدون المعراج وهو أمر مستبعد فأجابه مجوسي من مجوس الهند أن المعراج ليس بأشد استبعادًا من كون العذراء حاملة من غير زوج، فلو كان مطلق الأمر المستبعد كاذبًا فهذا أيضًا يكون كاذبًا فكيف تعتقدونه فبهت القسيس. 2- قال اللّه تعالى: الأول: أن قراءة حذيفة وقد انشق القمر وهي صريحة في الزمان الماضي والأصل توافق القراءتين. والثاني: أن اللّه أخبر بإعراضهم عن آياته والإعراض الحقيقي عنها لا يتصور قبل وقوعها. والثالث: أن المفسرين المشهورين صرحوا بأن انشق بمعناه، وردوا قول من قال بمعنى سينشق. والرابع: أن الأحاديث الصحيحة تدل على وقوعه قطعًا. ولذلك قال شارح المواقف: (وهذا متواتر قد رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره) انتهى كلامه. وقال العلامة أبو نصر عبد الوهاب ابن الإمام علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب في الأصول: (والصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما) انتهى كلامه. وأقوى شبهات المنكرين أن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الخرق والالتئام وأن هذا الانشقاق لو وقع لم يخف على أهل الأرض كلهم ونقله مؤرخو العالم. (والجواب) أن هذه الشبهة ضعيفة جدًا نقلًا وعقلًا. أما نقلًا فلسبعة أوجه: الوجه الأول: أن حادثة طوفان نوح عليه السلام كانت ممتدة إلى سنة، وفنى فيه كل ذي حياة من الطيور والبهائم والحشرات والإنسان غير أهل السفينة، وما نجا من الإنسان غير ثمانية أشخاص على ما هو مصرح به في الباب السابع والثامن من سفر التكوين. وفي الآية العشرين من الباب الثالث من الرسالة الأولى لبطرس هكذا: (في أيام نوح إذ كان الفلك يبني الذي فيه خلص قليلون أي ثمانية أنفس بالماء). والآية الخامسة من الباب الثاني من رسالته الثانية هكذا: (ولم يشفق على العالم القديم بل إنما حفظ نوحًا ثامنًا كارزا للبر إذ جلب طوفانًا على عالم الفجار). وما مضت على هذه الحادثة مدة إلى هذا اليوم على زعم أهل الكتاب إلا مقدار أربعة آلاف ومائتين واثنتي عشرة سنة شمسية ولا يوجد هذا الحال في تواريخ مشركي الهند وكتبهم. وهم ينكرون هذا الأمر إنكارًا بليغًا ويستهزئ به علماؤهم كافة ويقولون: لو قطع النظر عن الزمان السالف ونظر إلى زمان كرشن الأوتار، الذي كان قبل هذا اليوم بمقدار أربعة آلاف وتسعمائة وستين سنة على شهادة كتبهم، لا مجال لصحة هذه الحادثة العامة لأن الأمصار العظيمة الكثيرة من ذلك العهد إلى هذا الحين مغمورة وثبت بشهادة تواريخهم أنه يوجد من ذلك العهد إلى هذا الحين في إقليم الهند مليونات كثيرة في كل زمان من الأزمنة، ويدعون أن حال زمان كرشن لوجود كثرة التواريخ كحال أمس. وقال ابن خلدون في المجلد الثاني من تاريخه: (واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان وبعض الفرس يقولون كان ببابل فقط) انتهى كلامه بلفظه. وقال العلامة تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزي في المجلد الأول من كتابه المسمى بكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: (الفرس وسائر المجوس والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب ولم يعم العمران كله ولا غرق إلا بعض الناس ولم يجاوز عقبة حلوان ولا بلغ إلى ممالك المشرق) انتهى كلامه بلفظه. وأبناء صنف القسيسين ينكرون هذا الطوفان ويستهزئون به. وأنقل كلام جان كلارك الملحد عن رسالته الثالثة المندرجة في كتابه المطبوع سنة 1839 في ليدس فقال في الصفحة 54: (هذا) يعني الطوفان، غير صحيح على شهادة علم الفلسفة وأنا أتعجب! أمات الحيتان في ماء هذا الطوفان؟. ولما كان بحكم الآية الخامسة من الباب السادس من سفر التكوين أفكار قلوب الإنسان ذميمة فلماذا أبقى اللّه ثمانية أشخاص. لِمَ لَمْ يخلق الإنسان مرة أخرى بعد إهلاك الكل؟ ولماذا أبقى بضاعته القديمة التي بقيت الأفكار الذميمة باقية بسببها؟ لأن الشجرة الرديئة لا تثمر ثمرة جيدة كما قال متى في الآية السادسة عشر من الباب السابع، هل يجتنبون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا؟. ونوح كان شارب الخمر وبهيمة وظالمًا (والعياذ باللّه). كما يفهم من الآية 21 و 25 من الباب التاسع من سفر التكوين فكيف يرجى منه أن يكون نسله صالحًا. وانظروا أنه لم يكن صالحًا كما يظهر من الآية الثانية من الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل أفسيس والآية الثالثة من الباب الثالث من رسالته إلى تيطس والآية الثالثة من الباب الرابع من الرسالة الأولى لبطرس والآية [ص 190] الخامسة من الزبور الحادي والخمسين) انتهى كلامه. ثم استهزأ في هذه الصفحة 93 استهزاءً بليغًا جاوز الحد في إساءة الأدب، فلا أرضى بنقل كلامه القبيح. (الوجه الثاني) في الباب العاشر من كتاب يوشع، على وفق الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: 12 حينئذ تكلم يسوع أمام الرب في اليوم الذي دفع الأموري في يدي بني إسرائيل، وقال أمامهم أيتها الشمس مقابل جبعون لا تتحركي والقمر مقابل قاع ايلون 13 (فوقف الشمس والقمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم، أليس هذا مكتوبًا في سفر الأبرار فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تكن تعجل إلى الغروب يومًا تامًا). وفي الباب الرابع من الحصة الثالثة من كتاب تحقيق الدين الحق، المطبوع سنة 1846 في الصفحة 362 هكذا: (أما غربت الشمس بدعاء يوشع إلى أربع وعشرين ساعة) انتهى كلامه. وهذه الحادثة عظيمة وكانت على زعم المسيحيين قبل ميلاد المسيح بألف وأربعمائة وخمسين سنة فلو وقعت لظهرت على الكل ولا يمنع السحاب الغليظ علمه أيضًا، وهو ظاهر ولا اختلاف في الآفاق لأنا لو فرضنا أن بعض الأمكنة كان فيها الليل في هذا الوقت لأجل الاختلاف فلا بد أن تظهر لامتداد ليلهم بقدر أربع وعشرين ساعة. وهذه الحادثة العظيمة ليست مكتوبة في كتب تواريخ أهل الهند ولا أهل الصين ولا الفرس. وأنا سمعت من علماء مشركي الهند تكذيبها، وهم يجزمون بأنها غلط يقينًا، وأبناء صنف القسيسين يكذبونها ويستهزئون بها وأوردوا عليها اعتراضات:
الاعتراض الأول: أن قول يوشع أيتها الشمس لا تتحركي، وقوله فوقفت الشمس، يدلان على أن الشمس متحركة والأرض ساكنة، وإلا كان عليه أن يقول أيتها الأرض لا تتحركي فوقفت الأرض، وهذا الأمر باطل بحكم علم الهيئة الجديد الذي يعتمد عليه حكماء أوروبا كلهم الآن ويعتقدون ببطلان القديم، لعل يوشع ما كان يعلم هذه الحال، أو هذه القصة كاذبة. والاعتراض الثاني: أن قوله فوقفت الشمس في كبد السماء يدل على أن هذا الوقت كان نصف النهار وهذا مخدوش أيضًا بوجوه: أما أولًا: فلأن بني إسرائيل كانوا قتلوا من المخالفين ألوفًا وهزموهم ولما هربوا أمطر الرب عليهم حجارة كبارًا من السماء، وكان الذين ماتوا بالحجارة أكثرمن الذين قتلهم بنو إسرائيل، وهذه الأمور حصلت قبل نصف النهار على ما هو مصرح به في الباب فلا وجه لاضطراب يوشع عليه السلام في هذا الوقت لأن المظفرين من بني إسرائيل كانوا كثيرين جدًا والباقون من المخالفين قليلين جدًا وكان الباقي من النهار مقدار النصف، فقتلهم قبل الغروب كان في غاية السهولة. وأما ثانيًا: فلأن الوقت لما كان نصف النهار فكيف رأوا القمر في هذا الوقت على أن توقيفه لغو على قواعد الفلسفة. وأما ثالثًا: فلأن الوقت لما كان نصف النهار وكان بنو إسرائيل مشتغلين بالمحاربة والاضطراب، وما كان لهم شك في المقدار الباقي من النهار، وما كانت الساعات عندهم في ذلك الزمان. فكيف علموا أن الشمس قامت على دائرة نصف النهار بمقدار اثنتي عشرة ساعة وما مالت إلى هذه المدة إلى جانب المغرب. والاعتراض الثالث: قال جان كلارك: (إن اللّه كان وعد أن جميع أيام الأرض زرع وحصاد، برد وحر، صيف وشتاء، ليل ونهار، لا تهدأ كما هو مصرح به في الآية الثانية والعشرين من الباب الثامن من سفر التكوين فإذا لم تغرب الشمس إلى المدة المذكورة هدأ الليل في ذلك الوقت). (الوجه الثالث) في الآية الثامنة من الباب الثامن والثلاثين في بيان رجوع الشمس بمعجزة أشعيا هكذا: (فرجعت الشمس عشر درجات في المراقي التي كانت قد انحدرت). وهذه الحادثة عظيمة، ولما كانت في النهار فلا بد أن تظهر لأكثر أهل العالم، وكانت قبل ميلاد المسيح بسبعمائة وثلاث عشرة سنة شمسية، وهذه الحادثة ليست مكتوبة في تواريخ أهل الهند والصين والفرس. وأيضًا يفهم منها حركة الشمس وسكون الأرض، وهذا أيضًا باطل على حكم علم الهيئة الجديد. على أنا لو قطعنا النظر عن هذا، فنقول أن ههنا ثلاثة احتمالات أما أن رجع النهار فقط بمقدار عشر درجات، أو الشمس رجعت في السماء بهذا المقدار كما هو الظاهر، أو رجعت حركة الأرض من المشرق إلى المغرب بهذا المقدار. وهذه الاحتمالات الثلاثة باطلة بحكم الفلسفة. وهذه الحوادث الثلاثة مسلمة عند اليهود والنصارى والحوادث الباقية التي أذكرها تختص بالنصارى. (الوجه الرابع) في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى: 51 (وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل والأرض تزلزلت، والصخور تشققت 52 والقبور تفتحت وقام كثير من أجسام القديسين الراقدين 53 وخرجوا من القبور بعد قيامه ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين). وهذه الحادثة كاذبة يقينًا كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول، ولا توجد في تواريخ المخالفين القديمة من الرومانيين واليهود، ولم يذكر مرقس ولوقا تشقق الصخور، وتفتح القبور، وخروج كثير من أجساد القديسين ودخولهم في المدينة المقدسة، مع أن ذكرها كان أولى من ذكر صراخ عيسى عليه السلام عند الموت الذي اتفقا على ذكره. وتشقق الصخور من الأمور التي يبقى أثرها بعد الوقوع، والعجب أن متى لم يذكر أمر هؤلاء الموتى بعد انبعاثهم لأي الناس ظهروا، وكان اللائق ظهورهم على اليهود وبيلاطس ليؤمنوا بعيسى عليه السلام كما كان اللائق على عيسى عليه السلام أن يظهر على هؤلاء بعد قيامه من الأموات ليزول الاشتباه ولا يبقى المجال لليهود أن تلاميذه أتوا ليلًا وسرقوا جثته. وكذا لم يذكر أن هؤلاء الموتى بعد الانبعاث رجعوا إلى أجسادهم أو بقوا في الحياة. وقال بعض الظرفاء: لعل متى فقط رأى هذه الأمور في المنام. على أنه يفهم من عبارة لوقا أن انشقاق حجاب الهيكل كان قبل وفاة عيسى عليه السلام خلافًا لمتى ومرقس. (الوجه الخامس) كتب متى ومرقس ولوقا في بيان صلب المسيح، أن الظلمة كانت على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وهذه الحادثة لما كانت في النهار على الأرض كلها وممتدة إلى أربع ساعات، فلا بد أن لا تخفى على أكثر أهل العالم، ولا يوجد ذكرها في تواريخ أهل الهند والصين والفرس. (الوجه السادس) أن متى كتب في الباب الثاني قصة قتل الأطفال، ولم يكتبها غيره من الإنجيليين والمؤرخين. (الوجه السابع) في الباب الثالث من إنجيل متى ولوقا، وفي الباب الأول من إنجيل مرقس هكذا: (فساعة طلع من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلًا عليه، وكان صوت من السماوات (أنت ابني الحبيب الذي به سررت) انتهى بعبارة مرقس. فانشقاق السماوات لما كان في النهار، فلا بد أن لا يخفى على أكثر أهل العالم، وكذا رؤية الحمامة وسماع الصوت لا يختص بواحد دون واحد من الحاضرين، ولم يكتب أحد هذه الأمور غير الإنجيليين. وقال "جان كلارك" مستهزئًا بهذه الحادثة: (إن متى أبقانا محرومين من الاطلاع العظيم، وهو أنه لم يصرح أن السماوات لما انفتحت هل انفتحت أبوابها الكبيرة؟ أم المتوسطة؟ أم الصغيرة؟ وهل كانت هذه الأبواب في هذا الجانب من الشمس أو في ذلك الجانب؟ ولأجل هذا السهو الذي صدر عن متى قسوسنا يضربون الرؤوس متحيرين في تعيين الجانب، ثم قال: وما أخبرنا أيضًا أن هذه الحمامة هل أخذها أحد وحبسها في القفص، أم رأوها راجعة إلى جانب السماء. ولو رأوها راجعة ففي هذه الصورة لا بد أن تبقى أبواب السماوات مفتوحة إلى هذه المدة، فلا بد أنهم رأوا باطن السماء بوجه حسن لأنه لا يعلم أن بوابًا كان عليها قبل وصول بطرس هناك، لعل هذه الحمامة كانت جنية) انتهى كلامه.
(وأما بطلانها عقلًا) فلوجوه ثمانية. (الأول) أن انشقاق القمر كان في الليل وهو وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي والتردد في الطرق سيما في موسم البرد، فإن الناس يكونون مستريحين في دواخل البيوت وزواياها مغلقين أبوابها، فلا يكاد يعرف من أمور السماء شيئًا إلا من انتظره واعتنى به، ألا ترى إلى خسوف القمر فإنه يكون كثيرًا، وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به في السحر. (والثاني) أن هذه الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير، فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو بعيد عنه وينبهه، أو يوقظ النائم ويريه. (والثالث) أنها لم تكن متوقع الحصول لأهل العلم لينظروها في وقتها ويروها كما أنهم يرون هلال رمضان والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالبًا لأجل كونها متوقع الحصول، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضًا فضلًا عن الليل. فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا: سحركم ابن أبي كبشة فقال أبو جهل: هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقًا، وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالبًا ويقيمون بالنهار فقالوا: هذا سحر مستمر. وفي المقالة الحادية عشر من تاريخ "فرشته" أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضًا، وأسلم والي تلك الديار التي كانت من مجوس الهند بعد ما تحقق له هذا الأمر. وقد نقل الحافظ المري عن ابن تيمية 6 أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديمًا مكتوبًا عليه: "بني ليلة انشق القمر". (والرابع) أنه قد يحول في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات بين الرائي والقمر، سحاب غليظ أو جبل، ويوجد التفاوت الفاحش في بعض الأوقات في الديار التي ينزل فيها المطر كثيرًا، بأنه يكون في بعض الأمكنة سحاب غليظ ونزول المطر بحيث لا يرى الناظر في النهار الشمس ولا هذا اللون الأزرق إلى ساعات متعددة، وكذا لا يرى في الليل القمر والكواكب ولا اللون المذكور. وفي بعض أمكنة أخرى لا أثر للسحاب ولا للمطر وتكون المسافة بين تلك الأمكنة والأمكنة الأولى قليلة، وأهل البلاد الشمالية كالروم والفرنج في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام، فضلًا عن القمر. (والخامس) أن القمر لاختلاف مطالعه ليس في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين، فيظهر في بعض الآفاق وبعض المنازل على أهل بعض البلاد دون بعض، ولذلك نجد الخسوف في بعض البلاد دون بعض، ونجده في بعض البلاد باعتبار بعض أجزاء القمر، وفي بعضها مستوفيًا أطرافه كلها، وفي بعضها لا يعرفها إلا الحادقون في علم النجوم، وكثيرًا ما يحدث الثقات من العلماء بالهيئة الفلكية بعجائب يشاهدونها من أنوار ظاهرة ونجوم طالعة عظام تظهر في بعض الأوقات أو الساعات من الليل، ولا علم لأحد بها من غيرهم. (والسادس) أنه قلما يقع أن يبلغ عدد ناظري أمثال هذه الحوادث النادرة الوقوع إلى حد يفيد اليقين، وأخبار بعض العوام لا يكون معتبرًا عند المؤرخين في الوقائع العظيمة، نعم يعتبر أخبارهم أيضًا في الحوادث التي يبقى أثرها بعد وقوعها، كالريح الشديد، ونزول الثلج الكثير، والبرد. فيجوز أن مؤرخي بعض الديار لم يعتبروا أخبار بعض العوام في هذه الحادثة، وحملوه على تخطئة أبصار المخبرين العوام، وظنوا أنها تكون نحوًا من الخسوف. (والسابع) أن المؤرخين كثيرًا ما يكتبون الحوادث الأرضية ولا يتعرضون للحوادث السماوية إلا قليلًا سيما مؤرخي السلف، وكان في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم في ديار إنكلترة وفرانس شيوع الجهل، واشتهارها بالصنائع والعلوم إنما هو بعد زمانه صلى اللّه عليه وسلم بمدة طويلة. (والثامن) أن المنكر إذا علم أن الأمر الفلاني معجزة أو كرامة للشخص الذي ينكره تصدى لإخفائها، ولا يرضى بذكرها وكتابتها غالبًا. كما لا يخفى على من طالع الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا، والباب الرابع والخامس من كتاب الأعمال، فظهر أن لا اعتراض عقلًا ونقلًا على معجزة شق القمر. وقال صاحب ميزان الحق في النسخة المطبوعة سنة 1843 في مر زابور: (معنى الآية على قاعدة التفسير منسوب إلى يوم القيامة، لأن لفظ الساعة المعروف باللام، قصد منه الساعة المعلومة والوقت المعلوم أعني القيامة، كما أن هذا اللفظ جاء بهذا المعنى في الآيات التي هي في آخر هذه السورة، ولأجل ذلك فسر بعض المفسرين منهم القاضي البيضاوي وغيره لفظ الساعة بمعنى القيامة وقالوا: أن من علامات يوم القيامة بحكم هذه الآية هذه العلامة أيضًا، أن القمر سينشق) انتهى كلامه. فادعى أمرين الأول: أن الصحيح على قاعدة التفسير أن يكون انشق بمعنى سينشق. والثاني: أن بعض المفسرين منهم القاضي البيضاوي وغيره فسروه هكذا. وكلاهما غلطان. أما (الأول) فلأن انشق صيغة ماض، وحمله على معنى سينشق مجاز ولا يصار إلى المجاز ما لم يتعذر الحمل على الحقيقة، وههنا لم يتعذر بل يجب الحمل على معناه الحقيقي كما عرفت آنفًا. أما (الثاني) فلأنه بهتان صرف على البيضاوي، وهو ما فسر انشق بينشق بل فسر بمعناه الماضي، لكنه بعد ما فسر على مختاره، نقل قول البعض بصيغة التمريض، ثم رد قوله فهذا القول مردود عنده. ولما اعترض صاحب الاستفسار على مؤلف الميزان على العبارة المذكورة وقال: (أن القسيس إما غالط أو مغلط للعوام). تنبه المؤلف المذكور وغير هذه العبارة في النسخة الجديدة الفارسية المطبوعة سنة 1849، ونسخة أردو المطبوعة سنة 1850 وقال: (لفظ الساعة المعرف باللام في حالة الأفراد جاء في كل موضع من القرآن بمعنى يوم القيامة، وجملة انشق القمر بسبب واو العطف ألحقت بجملة اقتربت الساعة، وتوجد في كل من الجملتين صيغة الماضي، فكما أن الفعل الأول اقتربت بمعنى المستقبل يعني سيجيء يوم القيامة، فكذا الفعل الثاني انشق أيضًا بمعنى سينشق يعني إذا جاء يوم القيامة ينشق القمر، وبعض العلماء المفسرين أيضًا فسروا هكذا مثل الزمخشري والبيضاوي، وإن اعتقدا في تفسيرهما أن هذه الآية معجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لكنهما صرحا هكذا أيضًا. وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة، وفي قراءة حذيفة وقد انشق القمر أي اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق وقال البيضاوي: وقيل معناه سينشق يوم القيامة) انتهى كلامه. فتنبه صاحب الميزان وغير العبارة، لكنه أعجب في تلخيص عبارة الكشاف حيث أسقط بعض العبارة زاعمًا أنها غير مفيدة ونقل قوله: وفي قراءة حذيفة وقد انشق القمر الخ. وهذا القول لا يناسب مقصوده لأنه نص في ثبوت المعجزة المذكورة أن قيل: نقل هذا القول طردًا قلت فحينئذ لا وجه لإسقاط بعض العبارة، وعبارة الكشاف هكذا: (وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة. وقوله: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر يرده وكفى به ردًا قراءة حذيفة قد انشق القمر أي اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها إن القمر قد انشق كما تقول أقبل الأمير وقد جاء البشير بقدومه وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم) انتهى كلامه بلفظه. قوله: لفظ الساعة المعروف باللام الخ. وكذا قوله جملة: انشق القمر بسبب واو العطف الخ. لا يحصل منهما مقصوده، لعله فهم أن لفظ الساعة لما كان بمعنى القيامة وانشقاق القمر من علاماته، فلا بد أن يكون متصلًا بها واقعًا فيها، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل. قال اللّه تعالى في سورة محمد: وفي التفسير الكبير (الأشراط العلامات قال المفسرون: هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام، وفي الجلالين أي علاماتها منها مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم، وانشقاق القمر والدخان). وعبارة الحسيني كالبيضاوي قوله: فكما أن الفعل الأول اقتربت بمعنى المستقبل غلط لأنه بمعناه الماضي وترجمته بالفارسية يعني (رزو قيامت خواهد آمد) ليست بصحيحة، وما روي عن بعض الناس مردود عند المفسرين. ثم قال: (ولو سلمنا أن شق القمر وقع، لا يكون معجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم أيضًا، لأنه لم يصرح في هذه الآية ولا في آية أخرى أن هذه المعجزة ظهرت على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم) انتهى. أقول: يدل على كونها معجزة الآية الثانية والأحاديث الصحيحة التي صحتها بحسب الضابطة العقلية زائدة على صحة هذه الأناجيل المحرفة المملوءة بالأغلاط، والاختلافات المروية برواية الآحاد المفقود أسانيدها المتصلة، كما علمت في الباب الأول والثاني. ثم قال: (إن علاقة الآية الثانية بالآية الأولى أن المنكرين يرون في آخر الزمان علامات القيامة ولا يؤمنون بها، بل يقولون على عادة كفار السلف أنها سحر فاحش لا غير) انتهى كلامه. وهذا أيضًا غلط بوجهين: الأول: أن المنكر لا ينكر عنادًا، والكافر لا ينسب الأمر الخارق للعادة إلى السحر إلا إذا كان أحد ادعى أن هذا الأمر الخارق من معجزاتي أو كراماتي. وإذا ظهرت علامات القيامة في آخر الزمان من غير الادعاء فكيف ينكرها المنكرون، وكيف يقولون: أنها سحر فاحش لا غير. والثاني: أن انشقاق القمر في المستقبل لا يكون إلا في يوم القيامة، خاصة وفي هذا اليوم لا يقول الكفار إنه سحر مستمر لظهور أمر القيامة في هذا اليوم على كل أحد. إلا أن يكون أحد منهم عاقلًا معاندًا مثل هذا الموجه فلعله يقول بزعمه، أو يتفوه بهذا القول هذا الموجه بنفسه أو أمثاله من علماء بروتستنت، بعد انبعاثهم من أحداثهم لرسوخ عناد الدين المحمدي في قلوبهم. ثم قال: (لو ظهرت هذه المعجزة على يد محمد لأخبر المعاندين الذين كانوا يطلبون منه معجزة بأني شققت القمر في الوقت الفلاني فلا تكفروا) وستطلع على جوابه في الفصل الثاني على أتم وجه إن شاء اللّه. وقال صاحب وجهة الإيمان منكرًا لهذه المعجزة: (عدة أشخاص من المفسرين مثل الزمخشري والبيضاوي فسروا هذا المقام بأن القمر ينشق يوم القيامة، ولو وقع لاشتهر في جميع العالم ولا معنى لاشتهاره في إقليم واحد) انتهى كلامه ملخصًا. وقد ظهر لك مما ذكرنا أن كلا الأمرين ليسا بصحيحين يقينًا، وهذا القسيس فاق مؤلف الميزان، حيث أورد الدليل النقلي والعقلي، وصرح باسم الكشاف، أيضًا لعله رأى في النسخة القديمة للميزان لفظًا كالبيضاوي وغيره، فظن أن المراد بالغير الكشاف، لأن البيضاوي له مناسبة كثيرة بالكشاف بالنسبة إلى التفاسير الأخر، فصرح باسم الكشاف ليحصل له الفضل على مؤلف الميزان. وصاحب الكشاف قال في مبدأ تفسير هذه السورة: (انشقاق القمر من آيات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معجزاته النيرة) انتهى كلامه. وقال صاحب الرسالة التي ألفها في جواب مكتوب الفاضل نعمت على الهند معترضًا على هذه المعجزة: (لا يثبت من هذه الآية أن هذه المعجزة صدرت عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولا يثبت هذا الأمر من التفاسير) انتهى. وهذا الثالث بالخير المنبثق من الأولين فاق كليهما حيث قال: لا يثبت هذا الأمر من التفاسير لعله اعتقد أن القسيس الأول صادق في قوله كالبيضاوي وغيره، والقسيس الثاني صادق في قوله مثل الزمخشري والبيضاوي، ثم قاس حال سائر التفاسير على هذين التفسيرين فقال: ولا يثبت هذا الأمر من التفاسير، ليحصل له الفضل على القسيسين الأولين، ويظهر تبحره عند قومه بأنه طالع التفاسير كلها، فظهر أن كل لاحق من هؤلاء الثلاثة على سابقه، وهذا ليس بعجيب لأن مثل هذا الأمر قد شاع بين المسيحيين في القرن الأول كما يظهر من رسائل الحواريين، وصار من المستحسنات الدينية في القرن الثاني من القرون المسيحية كما قال المؤرخ موشيم في بيان حال علماء القرن الثاني من القرون المسيحية في الصفحة 65 من المجلد الأول من تاريخه المطبوع سنة 1832: (كان بين متبعي رأي أفلاطون وفيثاغورس مقولة مشهورة أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة اللّه ليسا بجائزين فقط بل قابلان للتحسين، وتعلم أولًا منهم يهود مصر هذه المقولة قبل المسيح، كما يظهر هذا جزمًا من كثير من الكتب القديمة، ثم أثر وباء هذا الغلط السوء في المسيحيين كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نسبت إلى الكبار كذبًا) انتهى كلامه. وقال آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره في شرح الباب الأول من رسالة بولس إلى أهل غلاطية: (هذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الكاذبة الغير الصحيحة هيجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة، والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية) انتهى. وإذا نسب أسلافهم أكثر من سبعين إنجيلًا إلى المسيح والحواريين ومريم عليهم السلام، فأي عجب لو نسب هؤلاء القسوس لأجل تغليط عوام أهل الإسلام بعض الأمور إلى تفاسير القرآن. واعلم أن الرسالة الأخيرة كانت مشتهرة في الهند، وكان القسيسيون يقسمونها كثيرًا في بلاده، لكن لما كتب عدة من علماء الإسلام عليها ردًا واشتهر ما كتبوا تركوها وطبع ثلاثة كتب من كتب الرد عليها. الأول: "التحفة المسيحية" لسيد الدين الهاشمي. والثاني: "تأييد المسلمين" لبعض أقارب مجتهد شيعة لكنهوا. والثالث: "خلاصة سيف المسلمين" للفاضل حيدر علي القرشي.
3- في البيضاوي: (روى أنه لما طلعت قريش من العقنقل، قال صلى اللّه عليه وسلم: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهم إني أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفًا من الحصباء فرمى بها في وجوههم. وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت) انتهى. وقال اللّه تعالى:
|