الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (50- 52): {فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}{فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لما ندرَ منهم من الذُّنوبِ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هي الجنَّةُ. والكريمُ من كلِّ نوع ما يجمعُ فضائلَه ويحوزُ كمالاتِه.{والذين سَعَوْاْ فِي ءاياتنا معاجزين} أي سابقين أو مُسابقين في زعمِهم وتقديرهم طامعين أنَّ كيدَهم للإسلام يتمُّ لهم. وأصلُه من عاجزَهُ وعجزَه فأعجزَه إذا سابقَه فسبقَه لأنَّ كُلاًّ من المتسابقينَ يريدُ إعجازَ الآخرِ عن اللَّحاق بهِ. وقرئ: {مُعجزين} أي مُثبِّطينَ النَّاسَ عن الإيمان على أنَّه حالٌ مقدَّرةٌ {أولئك} الموصوفون بما ذُكر من السَّعيِ والمُعاجزة {أصحاب الجحيم} أي ملازمُوا النَّارَ المُوقدةِ، وقيل: هو اسم دَرْكةٍ من دَرَكاتِها.{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها، والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شَبَّه عليه السَّلامُ علماءَ أُمَّتِه بهم. فالنَّبيُّ أعمُّ من الرَّسول، ويدلُّ عليه أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئل عن الأنبياءِ فقال: «مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً» قيل: فكم الرَّسولُ منهم؟ فقال: «ثلاثمائةٌ وثلاثةَ عشرَ جَمًّا غفيراً». وقيل: الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتاباً منزَّلاً عليه، والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له. وقيل: الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ، والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه {أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} في تشهِّيه ما يُوجب اشتغالَه بالدُّنيا كما قال عليه السَّلامُ: «وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة» {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شؤون الحقِّ. وصيغةُ المضارع في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي. وإظهارُ الجلالة في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ {والله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بكلِّ ما من شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العبادِ من قولٍ وفعلٍ عمداً أو خطأ {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعلُ. والإظهارُ هاهنا أيضاً لما ذُكر مع ما فيه من تأكيد استقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ، قيل: حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ، وقيل: تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتمَّ به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزلِ فيه، وقيل: تمنَّى بمعنى قرأ كقوله:وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النَّبيِّ عليه السَّلامُ وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} لأنَّه أيضاً يحتملُه، وفي الآيةِ دلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم. .تفسير الآيات (53- 55): {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان} علَّة لما يُنبىء عنه ما ذُكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حقِّ النبيِّ عليه السلام خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النَّظمِ الكريم لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائر الأنبياء عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل {فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآيةَ {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي المشركين {وَإِنَّ الظالمين} أي الفريقينِ المذكورينِ، فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظُّلمِ مع ما وُصفوا به من المرض والقساوةِ {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ، ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ} أي القرآنَ {الحق مِن رَّبّكَ} أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى، وقيل: ليعلمُوا أنَّ تمكينَ الشَّيطانِ من الإلقاءِ هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَّا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لَدُن آدمَ عليه السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلقاءِ في حقِّه عليه السَّلامُ لكن يأباه قولُه تعالى: {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بالقرآنِ أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيماناً بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي، ورجعُ الضَّميرِ لاسيما الثَّاني إلى تمكينِ الشَّيطانِ من الإلقاء ممَّا لا وجه له {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءَامَنُواْ} أي في الأمورِ الدِّينيةِ خُصوصاً في المداحض والمشكلاتِ التي من جُملتها ما ذكر {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله.{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ} أي في شكَ وجدال {مِنْهُ} أي من القرآن وقيل: من الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} وقوله تعالى: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} وما لحقَ من قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} وأمَّا تجويزُ كون الضَّميرِ لما ألقى الشَّيطانُ في أمنيَّتِه فممَّا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هَنَاتِهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القُرآن ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليست ناشئةً منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم.{حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذن قوله تعالى: {بَغْتَةً} أي فجأةً فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطُها وقيل: الموت {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيماً.والمرادُ به السَّاعةُ أيضاً كأنَّه قيل: أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطِها لما عرفتَه. وأمَّا ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النِّساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيماً أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعاً أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم يُنشىء مطراً ولم يلقح شَجراً أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَّا لا يساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ أصلاً كيفَ لا وإنَّ تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عزَّ وجلَّ ثم بيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الأُخرويينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بيِّناً لا ريبَ فيه..تفسير الآيات (56- 57): {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}{الملك} أي السُّلطانُ القاهرُ والاستيلاء التَّامُّ والتَّصرُّفُ على الإطلاقِ {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وحدَه بلا شريكٍ أصلاً بحيث لا يكونُ فيه لأحدٍ تصرُّفٌ من التَّصرُّفاتِ في أمرٍ من الأمورِ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا صورةً ولا معنى كما في الدُّنيا فإنَّ للبعضِ فيها تصرُّفاً صُورياً في الجملة وليس التَّنوينُ نائباً عمَّا تدلُّ عليه الغايةُ من زوالِ مريتهم كما قيل ولا عمَّا يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أنَّ القيدَ المعتبر مع اليَّومِ حيث وُسِّط بين طرفَيْ الجملة يجب أنْ يكون مداراً لحكمها أعني كون الملكِ لله عزَّ وجلَّ وما يتفرَّعُ عليه من الإثابة والتَّعذيبِ ولا ريبَ في أنَّ إيمانَهم أو زوالَ مريتهم ليس ممَّا له تعلُّقٌ بما ذُكر فضلاً عن المداريةِ له فلا سبيل إلى اعتبارِ شيءٍ منهما مع اليَّومِ قطعاً وإنَّما الذي يدورُ عليه ما ذُكر إتيانُ السَّاعةِ التي هي مُنتهى تصرُّفاتِ الخلق ومبدأُ ظهور أحكام المَلك الحقِّ جلَّ جلالُه فإذن هو نائبٌ عن نفس الجملة الواقعة غايةً لمريتهم فالمعنى: الملكُ يوم إذْ تأتيهم السَّاعةُ أو عذابُها لله تعالى. وقولُه تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} جملةٌ مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأَ من الأخبار بكونِ الملكِ يومئذٍ لله كأنَّه قيل: فماذا يُصنع بهم حينئذٍ؟ فقيل: يحكم بين فريقِ المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمجازاةِ. وقوله تعالى: {فالذين ءامَنُواْ} الخ، تفسير للحُكم المذكور وتفصيلٌ له أي فالذين آمنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه {وَعَمِلُواْ الصالحات} امتثالاً بما أُمروا في تضاعيفِه {فِي جنات النعيم} أي مستقرُّون فيها.{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} أي أصرُّوا على ذلك واستمرُّوا {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكفر والتَّكذيبِ وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببعد منزلتهم في الشَّرِّ والفساد أي أولئك الموصُوفون بما ذُكر من الكفر والتَّكذيبِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابَ} جملةٌ اسميَّةٌ من مبتدأ وخبرٍ مقدَّمٍ عليه وقعت خبر لأولئك أو لهم خبرٌ لأولئك وعذابٌ مرتفعٌ على الفاعلية بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور لاعتمادِه على المبتدأ وأولئك مع خبرِه على الوجهينِ خبرٌ للموصولِ وتصديرُه بالفاء للدِّلالةِ على أنَّ تعذيب الكفَّارِ بسبب أعمالِهم السَّيئةِ كما أنَّ تجريدَ خبرِ الموصول الأوَّلِ عنها للإيذانِ بأنَّ إثابة المؤمنينَ بطريق التَّفضُّلِ لا لإيجاب الأعمال الصَّالحةِ إيَّاها. وقولُه تعالى: {مُّهِينٌ} صفة لعذابٌ مؤكِّدة لما أفاده التَّنوينُ من الفخامةِ وفيه من المبالغةِ من وجوهٍ شتَّى ما لا يخفى..تفسير الآيات (58- 60): {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}{والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي في الجهادِ حسبما يلوحُ به قوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} أي في تضاعيف المُهاجرة. ومحلُّ الموصول الرَّفعُ على الابتداء وقوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} جواب لقسم محذوفٍ والجملةُ خبرُه ومن منع وقوعَ الجملةِ القسميَّةِ وجوابِها خبراً للمبتدأ يُضمر قولاً هو الخبرُ والجملةُ محكمية. وقوله تعالى: {رِزْقًا حَسَنًا} إمَّا مفعول ثانٍ على أنَّه من باب الرَّعي والذَّبحِ أي مَرزوقاً حسناً أو مصدرٌ مؤكِّد والمراد به ما لا ينقطعُ أبداً من نعيمِ الجنَّةِ وإنَّما سوى بينهما في الوعدِ لاستوائهما في القصد. وأصلُ العمل على أن مراتبَ الحُسنِ متفاوتةٌ فيجوزُ تفاوتُ حال المرزوقينَ حسب تفاوت الأرزاقِ الحسنةِ. ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ قالوا: يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتلوا في سبيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك فنزلتْ. وقيل: نزلتْ في طوائفَ خرجُوا من مكَّةَ إلى المدينةِ للهجرةِ فتبعهم المشركونَ فقاتلُوهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإنَّه يرزق بغير حسابٍ مع أنَّ ما يرزقه لا يقدِرُ عليه أحدٌ غيرُه والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وقوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بدلٌ من قوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} أو استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونه. ومُدخلاً إمَّا اسمُ مكانٍ أُريد به الجنَّة فهو مفعول ثانٍ للإدخال أو مصدرٌ ميميٌّ أُكِّد به فعلُه. قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّما قيل يَرضونه لما أنَّهم فيها يَرون ما لا عينٌ رأتْ لا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشرٍ فيرضونه {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوالِهم وأحوالِ معاديهم {حَلِيمٌ} لا يُعاجلهم بالعقوبة.{ذلك} خبرُ مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداءُ بالعقابِ الذي هو جزاءُ الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سبباً له {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العُقوبة {لَيَنصُرَنَّهُ الله} على مَن بغى عليه لا محالة {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغٌ في العفوِ والغُفرانِ فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فإنَّ فيه حثًّا بليغاً على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَّا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهاً على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ..تفسير الآيات (61- 65): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}{ذلك} إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبته. ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي اليل} أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنِه وسُنَّتِه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخرِ بأنْ يزيد فيه ما يُنقص عن الآخرِ أو بتحصيلِ أحدِهما في مكانِ الآخرِلكونِه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول المعاقِبِ {بَصِيرٌ} بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله.{ذلك} أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمالِ القُدرةِ والعلمِ وما فيه من معنى البُعد لما مَرَّ آنِفاً وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدأً لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِماً بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلحُ إلاَّ مَن كان عالماً قادراً {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلها. وقرئ على البناءِ للمفعولِ على أنَّ الواوَ لما فاته عبارة عن الآلهةِ. وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين {هُوَ الباطل} أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميعِ الأشياءِ {الكبير} عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} استفهامٌ تقريريٌّ كما يفصح عنه الرَّفعُ في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالعطف على أنزلَ، وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ {خَبِيرٌ} بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهراً وباطناً.{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} خَلْقاً ومُلْكاً وتصَرُّفاً {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى} عن كلِّ شيءٍ {الحميد} المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض} أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتُم فلا أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ {والفلك} عطفٌ على مَا، أو على اسمِ أنَّ. وقرئ بالرَّفعِ على الابتداء {تَجْرِى فِي البحر بِأَمْرِهِ} حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ.
|