الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (25): {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)}{واستبقا الباب} متصلٌ بقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} وقولُه: كذلك إلى آخره، اعتراضٌ جيء به بين المعطوفَيْن تقريراً لنزاهته عليه السلام كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض} والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص، ولذلك وُحّد بعد الجمعِ فيما سلف وحُذف حرفُ الجر وأوصل الفعلُ إلى المجرور نحو وإذا كالوهم، أو ضُمِّن الاستباقُ معنى الابتدارِ، وإسناد السبق في ضمن الاستباق إليها مع أن مرادَها مجردُ منعِ يوسف وذا لا يوجب الانتهاء إلى الباب لأنها لما رأته يسرع إلى الباب ليتخلص منها أسرعت هي أيضاً لتسبِقَه إليه وتمنعه عن الفتح والخروج، أو عبر عن إسراعها إثْرَه بذلك مبالغة.{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} اجتذبتْه من ورائه فانشق طولاً وهو القَدُّ كما أن الشقّ عرضاً هو القَطُّ، وقد قيل في وصف عليّ رضي الله عنه: إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قطّ وإسنادُ القدِّ إليها خاصة مع أن لقوة يوسفَ أيضاً دخلاً فيه إما لأنها الجزءُ الأخيرُ للعلة التامةِ وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذلِ مجهودِها في ذلك لفَوْت المحبوب أو لخوف الافتضاح {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} أي صادفا زوجَها وإذْ لم يكن مُلكُه ليوسف عليه السلام صحيحاً لم يقل سيدهما. قيل: ألفياه مقبلاً وقيل: كان جالساً مع ابن عمَ للمرأة {لدى الباب} أي البراني كما مر. روى كعب رضي الله عنه أنه لما هرب يوسفُ عليه السلام جعل فَراشُ القُفلِ يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب {قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائل يقول: فماذا كان حين ألفَيا العزيزَ عند الباب؟ فقيل: قالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} من الزنى ونحوه {إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ما نافية أي ليس جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم، قيل: المرادُ به الضربُ بالسياط، أو استفهاميةٌ أي أيُّ شيءٍ جزاؤُه غيرُ ذاك أو ذلك، ولقد أتت في تلك الحالةِ التي تُدهش فيها الفَطِنَ حيث شاهدها العزيزُ على تلك الهيئة المُريبة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئةُ ساحتِها مما يلوح من ظاهر الحالِ واستنزالُ يوسف عن رأيه في استعصائه عليها وعدمِ مواتاتِه على مرادها بإلقاء الرعبِ في قلبه من مكرها طمعاً في مواقعته لها كرهاً عند يأسِها عن ذلك اختياراً كما قالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلْيَكُوناً مِّنَ الصاغرين} ثم إنها جعلت صدورَ الإرادة المذكورةِ عن يوسف عليه السلام أمراً محققاً مفروغاً عنه غنياً عن الإخبار بوقوعه وأن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائِها فهي تريد إيقاعَه حسبما يقتضيه قانونُ الإيالة، وفي إبهام المُريد تهويلٌ لشأن الجزاء المذكورِ بكونه قانوناً مطرداً في حق كل أحدٍ كائناً من كان، وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيزِ إعظامٌ للخطب وإغراءٌ له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية..تفسير الآية رقم (26): {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)}{قَالَ} استئنافٌ وجوابٌ عما يقال: فماذا قال يوسفُ حينئذ؟ فقيل: قال: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} أي طالبتني للمواتاة لا أني أردتُ بها سوءاً كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسِه عما أُسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حقِّ السيد ودفعِ ما عرضَتْه له من الأمرين، وفي التعبير عنها بضمير الغَيبة دون الخطاب أو اسم الإشارةِ مراعاةٌ لحسن الأدبِ مع الإيماء إلى الإعراض عنها {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل: هو ابنُ عمها، وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب، وقيل: كان حكيماً يرجِعُ إليه الملكُ ويستشيره، وقد جُوّز أن يكون بعضُ أهلها قد بصُر بها من حيث لا تشعُر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيامِ بالحق، وإنما ألقى الله سبحانه الشهادةَ إلى من هو من أهلها ليكون أدلَّ على نزاهته عليه السلام وأنفى للتُّهمة، وقيل: كان الشاهدُ ابنَ خالٍ لها صبياً في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر، فإنه رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعةٌ وهم صغار، ابنُ ماشطةَ بنتِ فرعون، وشاهدُ يوسف، وصاحبُ جريج، وعيسى عليه السلام» رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وذكر كونَه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحالُ في هذه الصورة بين كون الشاهدِ من أهلها أو من غيرهم.{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} أي إن عُلم أنه قدّ من قبُلُ، ونظيره إن أحسنتَ إلى فقد أحسنتُ إليك فيما قبلُ، فإن معناه: إن تعتدَّ بإحسانك إلي فأعتدُّ بإحساني السابقِ إليك {فَصَدَقَتْ} بتقدير قد، لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت، وكذا الحال في قوله: {فَكَذَّبْتَ} وهي وإن لم تصرِّح بأنه عليه السلام أراد بها سوءاً إلا أن كلامَها حيث كان واضحَ الدِلالة عليه، أُسند إليها الصدقُ والكذب بذلك الاعتبار، فإنها كما يعرِضان الكلامَ باعتبار منطوقِه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه، وبذلك الاعتبار يعرضان للإنشاءات {وَهُوَ مِنَ الكاذبين} وهذه الشرطية حيث لا ملازمةَ عقليةً ولا عاديةً بين مقدِّمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذُكرت توسيعاً للدائرة وإرخاءً للعِنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحالُ في الجملة بأن يقع القدُّ من قُبُل بمدافعتها له عليه السلام عن نفسها عند إرادتِه المخالطةَ والتكشفَ مُجرى الظاهرِ الغالبِ الوقوعِ تقريباً لما هو المقصودُ بإقامة الشهادة، أعني مضمونَ الشرطية الثانية التي هي قوله عز وجل:.تفسير الآيات (27- 28): {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)}{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين} إلى التسليم والقَبول عند السامع لكونه أقربَ إلى الوقوع وأدلَّ على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضاً ملازمةٌ، وحكايةُ الشرطيةِ بعد فعل الشهادةِ لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول. أي شهد قائلاً إلخ وتسميتُها شهادةً مع أنه لا حكمَ فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها، بل لأنها شهادةٌ على الحقيقة، وحُكمٌ بصدقه وكذبها أما على تقدير كونِ الشاهدِ هو الصبيُّ فظاهرٌ إذ هو إخبارٌ بهما من قِبَل علامِ الغيوب، والتصويرُ بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهرٌ من العلائم أيضاً وأما على تقدير كونِه غيرَه فلأن الظاهرَ أن صورةَ الحالِ معلومةٌ له على ما هي عليه إما مشاهدةً أو إخباراً فهو متيقّنٌ بعدم مقدَّم الشرطيةِ الأولى، وبوجود مقدمِ الشرطيةِ الثانية ومن ضرورته الجزمُ بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية، فإذن هو إخبارٌ بكذبها وصدقِه عليه السلام ولكنه ساق شهادتَه مساقاً مأموناً من الجَرْح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددةِ ظاهراً بين نفعها ونفعِه، وأما حقيقةً فلا تردد فيها قطعاً. لأن الشرطية الأولى تعليقٌ لصدقها بما يستحيل وجودُه من قدّ القميص من قُبُل فيكون مُحالاً لا محالة، ومن ضرورته تقررُ كذبها، والثانية تعليقٌ لصدقه عليه السلام بأمر محققِ الوجود وهو القدُّ من دبر فيكون محققاً البتةَ، وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة: زوجيني نفسك، فقالت: لي زوجٌ فكذبها في ذلك فقالت: إن لم يكن لي زوجٌ فقد زوجتُك نفسي، فقبل الرجلُ فإذا لا زوج لها فهو نكاحٌ، إذ تعليقُ الشيء بأمر مقرَّرٍ تنجيزٌ له. وقرئ {منْ قُبل}ُ و{من دُبرُ} بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبلُ وبعدُ وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرفَ للتأنيث والعلمية وقرئ بسكون العين.{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال {قَالَ إِنَّهُ} أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها: ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى: {مِن كَيْدِكُنَّ} أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن عن الإفادة وتدبيرِ العقوبة وإن لم يمكن تجريدُه عن الإضافة إليها إلا أنها لما صوّرته بصورة الحق أفاد الحكمَ بكونه من كيدهن إفادةً ظاهرةً فتأمل. وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق:ورجْعُ الضميرِ إلى قولها: ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً فقط عدولٌ عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاعُ من أن إرادةَ السوءِ ممن هي إلى البحث عن شُعبة من شُعَبه، وجعلُه للسوء أو للأمر المعبّر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبرُ فإن الكيدَ يستدعي أن يعتبر مع ذلك هَناتٌ أُخرُ من قِبلها كما أشرنا إليه {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} فإنه ألطفُ وأعلقُ بالقلب وأشدُّ تأثيراً في النفس. وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} وقال للنساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ولأن الشيطان يوسوس مُسارقةً وهن يواجِهْن به الرجال. .تفسير الآيات (29- 30): {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)}{يُوسُفَ} حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله {أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي عن هذا الأمرِ وعن التحديث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك {واستغفرى} أنت يا هذه {لِذَنبِكِ} الذي صدر عنك وثبَتَ عليك {إِنَّكَ كُنتَ} بسبب ذلك {مِنَ الخاطئين} من جملة القوم المتعمّدين للذنب أو من جنسهم، يقال: خطِىء إذا أذنب عمداً، وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار، والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها، وقيل: كان قليلَ الغَيرة.{وَقَالَ نِسْوَةٌ} أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً: امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب، والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال، ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث {فِى المدينة} ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} أي الملك، يُرِدْن قطفير، وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل، إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن: {تُرَاوِدُ فتاها} أي تطالبه بمواقعته لها وتتحمل في ذلك وتخادعه {عَن نَّفْسِهِ} وقيل: تطلب منه الفاحشة، وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم: فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد هاهنا وفي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»، وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانة ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية، وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لاسيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب، وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج، عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لاسيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال.{قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها، وقرئ {شعَفها} بالعين من شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران. وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك، وكان الشعبي يقول: الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال من فاعل تُراود أو من مفعوله، وأياً ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية، وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى، ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام، وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه {إِنَّا لَنَرَاهَا} أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً {فِى ضلال} عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل {مُّبِينٌ} واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس، فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه..تفسير الآية رقم (31): {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن وسوءِ قالتِهن وقولِهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها، وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر، وإن كان ظاهراً لغيرها. وقيل: استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها، وقيل: إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات {وَأَعْتَدَت} أي أحضرت وهيأت {لَهُنَّ} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، أو رتّبت لهن مجلسَ شرابٍ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترَفين، ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً. وقيل: متّكأ طعاماً من قولهم: تكأنا عند فلان أي طعِمنا، قال جميل:وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً، كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين، وقرئ بغير همز وقرئ بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبَع وقرئ {مُتُكاً} وهو الأُترُجّ وأنشدوا: أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه إذا تكى {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن {وَقَالَتِ} ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها، والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها: {اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} بعد قوله: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ} وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل {أَكْبَرْنَهُ} عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر» وقيل: كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء، وقيل: معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبي: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرَحْنها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحِهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ، وأصلُه {حاشا} كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه، فمعنى {حاشا الله} تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، واللام لبيان المنزَّه والمبرَّأ عز وجل كما في سُقياً لك، والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبي السمال {حاشاً} بالتنوين وقراءةُ أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقرأةُ الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه، وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك: جلست مِنْ عن يمينه.وقولُه: غدت مِنْ عليه منقلبُ الألف إلى الياء مع الضمير وقرئ {حاش لله} بسكون الشين إتباعاً للفتحة الألفَ في الإسقاط و{حاش الإله}، وقيل: حاشا فاعلٌ من الحشا الذي هو الناحية وفاعلُه ضميرُ يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمتْه به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانبَ المعصية لأجل الله {مَا هذا بَشَرًا} على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغةُ أهلِ الحجازِ لمشاركتهما في نفي الحالِ وقرئ {بشرٌ} على لغة تميم وبِشِرًى أي بعبد مشترى لئيم، نفَين عنه البَشَرية لما شاهدْن فيه من الجمال العبقري الذي لم يُعهدْ مثالُه في البشر وقصَرْنه على الملَكية بقولهن: {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} بناءً على ما ركَز في العقول مِنْ ألاّ حيَّ أحسنُ من الملك كما ركب فيها أن لا أقبحُ من الشيطان ولذلك لا يزال يُشبَّه بهما كلُّ متناهٍ في الحسن والقبح وغرضُهن وصفُه بأقصى مراتبِ الحسن والجمال.
|