الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (5): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} شروعٌ في تفصيل ما أجمل في قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} الآية {بئاياتنا} أي ملتبساً بها وهي معجزاتُه التي أظهرها لبني إسرائيلَ {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} بمعنى أي أخرِجْ لأن الإرسالَ فيه معنى القول أو بأن أخرِجْ كما في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} فإن صيغ الأفعال في الدلالة على المصدر سواءٌ، وهو المدارُ في صحة الوصل والمرادُ بذلك إخراجُ بني إسرائيلَ بعد مهلِك فرعون {مِنَ الظلمات} من الكفر والجهالاتِ التي أدتهم إلى أن يقولوا: يا موسى اجعل لن إلها كما لهم آلهة {إِلَى النور} إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائرِ ما أُمروا به {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} أي بنعمائه وبلائِه كما ينبىء عنه قوله: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى من قبلهم من الأمم في الأيام الخالية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} الآيات، أو بأيامه المنطوية على ذلك كما يلوح به قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ} والالتفاتُ من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنِها والإشعارِ بعدم اختصاصِ ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومِه كما تُوهمه الإضافةُ إلى ضمير المتكلم أي عظْهم بالترغيب والترهيب والوعدِ الوعيد، وقيل: أيامُ الله وقائعُه التي وقعت على الأمم قبلهم، وأيامُ العرب وقائعُها وحروبُها وملاحمها أي أنذرهم وقائعَه التي دهمت الأممَ الدارجة، ويردّه ما تصدى له عليه الصلاة والسلام بصدد الامتثالِ من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك.{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماءِ والبلاءِ أو في أيامها {لاَيَاتٍ} عظيمةً أو كثيرةً دالةً على وحدانية الله تعالى وقدرتِه وعلمه وحكمته، فهي على الأول عبارةٌ عن الأيام سواءٌ أريد بها أنفسُها أو ما فيها من النعماء والبلاءِ، ومعنى ظرفية التذكيرِ لها كونُه مناطاً لظهورها، وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر، وأما على الثاني وهو كونُه إشارةً إلى مجموع النعماءِ فعن كل واحدةَ من تلك النعماء والمشارُ إليه المجموعُ المشتمل عليها من حيث هو مجموعٌ وكلمةُ في تجريديةٌ مثلُها في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} {لّكُلّ صَبَّارٍ} على بلائه {شَكُورٍ} لنعمائه، وقيل: لكل مؤمنٍ، والتعبيرُ عنهم بذلك للإشعار بأن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمن أي لكل مَن يليق بكمال الصبرِ والشكر أو الإيمان ويصبِر أمرَه إليها، لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليلٌ للأمر بالتذكير المذكور السابقِ على التذكر المؤدّي إلى تلك المرتبة، فإن من تذكّر ما فاض أو نزل عليه أو على مَنْ قبله من النعماء والبلاءِ وتنبّه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها، وتخصيصُ الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافيةٌ عن غيرهم، فإن التبيينَ حاصلٌ بالنسبة إلى الكل، وتقديمُ الصبار على الشكور لتقدم متعلَّقِ الصبر أعني البلأَ على متعلّق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عاقبة الصبر..تفسير الآيات (6- 7): {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} شروعٌ في بيان تصدّيه عليه الصلاة والسلام لما أُمر به من التذكير للإخراج المذكورِ، وإذ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر سرُّه غيرَ مرة أي اذكر لهم وقت قولِه عليه الصلاة والسلام لقومه: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبلُ وهي إليه أميلُ، والظرفُ متعلّقٌ بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أو بمحذوف وقع حالاً منها إن جعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم، وكذلك كلمةُ إذْ في قوله تعالى: {إِذَا أنجاكم من آل فرعون} أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائِه إياكم من آل فرعون أو اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم وقت إنجائِه إياكم منهم أو بدلُ اشتمال من نعمةَ الله مراداً بها الإنعامُ أو العطية {يَسُومُونَكُمْ} يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصلُ السَّوم الذهابُ في طلب الشيء {سُوء العذاب} السوءُ مصدر ساء يسوء والمرادُ به جنسُ العذاب السيّيء أو استعبادهم واستعمالُهم في الأعمال الشاقة والاستهانةُ بهم وغيرُ ذلك مما لا يحصر، ونصبُه على أنه مفعولٌ ليسومونكم {وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد، وإنما فعلوا ذلك لأن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة أنه سيولد منهم مَنْ يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يُغن عنهم من قضاء الله شيئاً.{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يُبقونهن في الحياة مع الذل والصَّغار ولذلك عد من جملة البلاء. والجملُ أحوالٌ من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضميرَ كلَ منهما {وَفِى ذلكم} أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة {بَلاء مِّن رَّبّكُمْ} أي ابتلاء منه لا أن البلاء عينُ تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل (في) تجريديةً فنسبتُه إلى الله تعالى إما من حيث الخلقُ أو الإقدارُ والتمكين {عظِيمٌ} لا يطاق، ويجوز أن يكون المشارُ إليه الإنجاء من ذلك، والبلاءُ الابتلاءُ بالنعمة وهو الأنسب كما يلوح به التعرضُ لوصف الربوبية، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاءُ أو باعتبار أن بلأَ المؤمن تربيةٌ له.{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} من جملة مقالِ موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوفٌ على نعمةَ الله أي اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذّن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً لا تبقى معه شائبةٌ، لِما في صيغة التفعّل من معنى التكلّف المجعولِ في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمالُ، وقيل: هو معطوفٌ على قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ}، أي اذكروا نعمتَه تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذنَ أيضاً نعمةٌ من الله تعالى عليهم ينالون بها خيري الدنيا والآخرة، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وإذا قال ربكم.ولقد ذكّرهم عليه الصلاة والسلام أولاً بنعمائه تعالى عليهم صريحاً وضمنّه تذكيرَ ما أصابهم قبل ذلك من الضراء، ثم أمرهم ثانياً بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيدِ بالعذاب على تقدير الكفر، والمرادُ بتذكير الأوقات تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث مفصلةً إذ هي محيطةٌ بذلك فإذا ذُكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهَدٌ معايَن {لَئِن شَكَرْتُمْ} يا بني إسرائيلَ ما خوّلتُكم من نعمة الإنجاء وإهلاكِ العدوّ وغير ذلك من النعم والآلاءِ الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة {لازِيدَنَّكُمْ} نعمةً إلى نعمة {وَلَئِن كَفَرْتُمْ} ذلك وغمِصتموه {إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم، ومن عادة الكرام التصريحُ بالوعد والتعريضُ بالوعيد فما ظنُّك بأكرم الأكرمين؟ ويجوز أن يكون المذكورُ تعليلاً للجواب المحذوفِ أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئةٌ للقسم وكلٌّ من الجوابين سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم، والجملةُ إما مفعولٌ لتأذن لأنه ضرْبٌ من القول أو لقول مقدر بعده، كأنه قيل: وإذ تأذن ربكم فقال، الخ..تفسير الآيات (8- 9): {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ} نِعمَه تعالى ولم تشكروها {أَنتُمْ} يا بني إسرائيلَ {وَمَن فِي الأرض} من الخلائق {جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ} عن شكركم وشكرِ غيرِكم {حَمِيدٌ} مستوجِبٌ للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمَدْه أحد، أو محمودٌ يحمَده الملائكةُ بل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم ناطقةٌ بحمده، والحمدُ حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدلَّ على كماله سبحانه، وهو تعليلٌ لما حُذف من جواب إن، أي إن تكفروا لم يرجِعْ وبالُه إلا عليكم فإن الله تعالى لغنيٌّ عن شكر الشاكرين، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله عندما عاين منهم دلائلَ العِناد ومخايلَ الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيبُ ولا التعريضُ بالترهيب، أو قاله غِبَّ تذكيرِهم بما ذكر من قول الله عز سلطانه تحقيقاً لمضمونه وتحذيراً لهم من الكفران ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيُقلعوا عما هم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى، وقيل: هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيختصّ تذكيرُ موسى عليه الصلاة والسلام بما اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء، والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط، وفيه ما لا يخفى من البعد، وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيصِ تذكيرِ الكفار الذين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء {قَوْمُ نُوحٍ} بدل من الموصول أو عطفُ بيان {وَعَادٌ} معطوفٌ على قوم نوح {وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف عليه وقوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه، والجملةُ اعتراضٌ، والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددَهم إلا الله سبحانه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنانَ وإسماعيلَ ثلاثون أباً لا يُعرفون. وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية قال: كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} استئنافٌ لبيان نَبئِهم {بالبينات} بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ سواه.{وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم، أو فعضّوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضِّحْكُ أو إسكاتاً للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه، أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً، أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم: {أَفِى الله شَكٌّ} وقيل: الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائِحهم وشرائِعهم التي هي مدارُ النعم الدينية والدنيوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه {وَإِنَّا لَفِى شَكّ} عظيم {مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} من الإيمان بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا: {فأتونا بسلطان مبين}، وقرئ: {تدّعون} بالإدغام {مُرِيبٍ} مُوقعٍ في الريبة من أرابه، أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء..تفسير الآية رقم (10): {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)}{قَالَتْ رُسُلُهُمْ} استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلُهم؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ: {أَفِى الله شَكٌّ} بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلاً، منقادين عن تطبيق الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا: أأنتم في شك مريب من الله تعالى؟ مبالغةً في تنزيه ساحةِ السّبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول، أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب، وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ: إنا كفرنا بما أرسلتم به، واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا: {فَاطِرَ السموات والأرض} أي مُبدعُهما وما فيها من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك، وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام، وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصل بين الموصوف والصفةِ بالأجنبي، أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضاً {يَدْعُوكُمْ} إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة، كقولك: دعوتُه ليأكلَ معي {مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام يجُبّه، قيل: هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقةً بين الوعدين، ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم، وقيل: المعنى ليغفرَ لكم بدلاً من ذنوبكم {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان.{قَالُواْ} استئناف كما سبق {إِنْ أَنتُمْ} أي ما أنتم {إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} من غير فضل يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة {تُرِيدُونَ} صفةٌ ثانية لبشرٌ حملاً على المعنى كقوله تعالى: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد {أَن تَصُدُّونَا} بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا {فَأْتُونَا} أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا {بسلطان مُّبِينٍ} يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة، أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أباً عن جد. ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخرّ له صُمّ الجبال، ولكنهم إنما يقولون من العظائم مكابرةً وعِناداً وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين.
|