الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (132- 134): {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}{وَأَطِيعُواْ الله} في كل ما أمركم به ونهاكم عنه {والرسول} الذي يبلّغكم أوامرَه ونواهيَه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين لرحمته. عقّب الوعيدَ بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة، وإيرادُ {لَعَلَّ} في الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة. قال محمدُ بنُ إسحاقَ: هذه الآيةُ معاتبةٌ للذين عصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يومَ أحُد.{وَسَارِعُواْ} عطفٌ على أطيعوا، وقرئ بغير واو على وجه الاستئنافِ أي بادروا وأقبلوا وقرئ {وسابقوا} {إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} أي إلى ما يؤدي إليهما، وقيل: إلى الإسلام، وقيل: إلى التوبة، وقيل: إلى الإخلاص، وقيل: إلى الجهاد، وقيل: إلى أداء جميعِ الواجباتِ وتركِ جميعِ المنهيَّاتِ فيدخُل فيها ما مر من الأمور المأمورِ بهاوالمنهيَّ عنها دخولاً أولياً. وتقديمُ المغفرةِ على الجنة لما أن التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرة أي كائنةٍ من ربكم. والتعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار مزيدِ اللطفِ بهم، وقولُه تعالى: {عَرْضُهَا السموات والارض} أي كعرضهما صفةٌ لجنةٍ، وتخصيصُ العَرْض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسِّعة والبسطةِ على طريقة التمثيلِ فإن العَرْضَ في العادة أدنى من الطول. وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سمواتٍ وسبعِ أرضينَ لو وُصل بعضُها ببعض {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} في حيز الجرِّ على أنه صفةٌ أخرى لجنة أو في محل النصبِ على الحالية منها لتخصُّصها بالصفة، أي هُيِّئَتْ لهم. وفيه دليلٌ على أن الجنةَ مخلوقةٌ الآن وأنها خارجةٌ عن هذا العالم {الذين يُنفِقُونَ} في محل الجر على أنه نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيز النصبِ أو الرفعِ على المدح، ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك: يُعطي ويمنَع {فِى السَّرَّاء والضراء} في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر، أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حالٍ بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير.{والكاظمين الغيظ} عطفٌ على الموصول، والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار، وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدثَ وهو التجدد، والكظمُ الحبسُ يقال: كظَم غيظه أي حبَسه، قال المُبرِّدُ: تأويلُه أنه كتمه على امتلائه منه، يقال: كظمتُ السقاءَ إذا ملأتُه وشددتُ عليه أي المُمْسِكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القُدرة عليه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذِه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً» {والعافين عَنِ الناس} أي التركين عقوبةَ من استحق مؤاخذتَه. رُوي أنه ينادي منادٍ يومَ القيامة: أين الذين كانت أجورُهم على الله تعالى؟ فلا يقوم إلا من عفا.وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هؤلاءِ في أمتي قليلٌ ألا من عصَم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت» وفي هذين الوصفين إشعارٌ بكمال حُسنِ موقعِ عفوِه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وتركِ مؤاخذتِهم بما فعلوا من مخالفة أمرِه عليه السلام وندبٌ له عليه السلام إلى ترك ما عزَم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزةَ رضي الله عنه حيث قال حين رآه قد مُثِّل به: «لأمثّلنّ بسبعين مكانك».{والله يُحِبُّ المحسنين} اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد، عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حُسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحُسنها الذاتي، وقد فسره عليه السلام بقوله: «أن تعبدَ الله كأنكَ تَرَاهُ فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ» والجملةُ تذييلٌ يقرِّر مضمونَ ما قبلها..تفسير الآية رقم (135): {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}{والذين} مرفوعٌ على الابتداء، وقيل: مجرورٌ معطوفٌ على ما قبله من صفات المتقين، وقوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين} اعتراضٌ بينهما مشيرٌ إلى ما بينهما من التفاوت، فإن درجةَ الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاءِ وحظِّهم، أو على نفس المتقين فيكونُ التفاوتُ أكثرَ وأظهرَ {إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} أي فَعلةً بالغةً في القُبح كالزنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بأن أتَوْا ذنباً أيَّ ذنبٍ كان، وقيل: الفاحشةُ الكبيرةُ، وظلمُ النفسِ الصغيرة، أو الفاحشةُ ما يتعدّى إلى الغير، وظلمُ النفس ما ليس كذلك. قيل: قال المؤمنون: يا رسولَ الله كانت بنو إسرائيلَ أكرمَ على الله تعالى منا، كان أحدُهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذنبِه مكتوبةً على عَتَبة دارِه افعلْ كذا فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ. وقيل: إن نبهانَ التمار أتتْه امرأةٌ حسناءُ تطلُب منه تمراً فقال لها: هذا التمرُ ليس بجيد وفي البيت أجودُ منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندِم على ذلك وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت، وقيل: جرى مثلُ هذا بين أنصاريُّ وامرأةِ رجلٍ ثقفي كان بينهما مؤاخاةٌ فندم الأنصاريُّ وحثا على رأسه الترابَ وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائباً مستغفِراً ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وأياً ما كان فإطلاقُ اللفظِ ينتظم ما فعله الزُناةُ انتظاماً أولياً {ذَكَرُواْ الله} تذكّروا حقَّه العظيمَ وجلالَه الموجبَ للخشية والحياء أو وعيدَه أو حُكمَه وعقابَه.{فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} بالتوبة والندمِ، والفاء للدَلالة على أن ذكرَه تعالى مستتبعٌ للاستغفار لا محالة {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب} استفهامٌ إنكاريٌّ، والمرادُ بالذنوب جنسُها كما في قولك: فلان يلبَس الثيابَ ويركب الخيلَ لا كلُّها حتى يُخِلّ بما هو المقصودُ من استحالة صدورِ مغفرةِ فردٍ منها عن غيره تعالى، وقوله تعالى: {إِلاَّ الله} بدلٌ من الضمير المستكن في يغفر أي لا يغفرُ جنسَ الذنوبِ أحدٌ إلا الله خلا أن دَلالة الاستفهامِ عن الانتفاء أقوى وأبلغُ لإيذانه بأن كلَّ أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب يعرِف ذلك الانتفاءَ فيسارع إلى الجواب به، والمرادُ به وصفُه سبحانه بغاية سَعةِ الرحمةِ وعمومِ المغفرةِ، والجملةُ معترضةٌ بين المعطوفين أو بين الحالِ وصاحبِها لتقرير الاستغفارِ والحث عليه والإشعارِ بالوعد بالقَبول {وَلَمْ يُصِرُّواْ} عطفٌ على فاستغفروا، وتأخيرُه عنه مع تقدم عدمِ الإصرار على الاستغفار رتبةً لإظهار الاعتناءِ بشأن الاستغفارِ واستحقاقِه للمسارعة إليه عَقيبَ ذكرِه تعالى أو حال من فاعله ولم يُقيموا أو غيرَ مقيمين {على مَا فَعَلُواْ} أي ما فعلوه من الذنوب فاحشةً كانت أو ظلماً أو على فعلهم. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرةً» وأنه لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فاعل يُصِروا أي لم يُصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقُبحه والنهيِ عنه والوعيدِ عليه. والتقييدُ بذلك لما أنه قد يُعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن التقصيرُ في تحصيل العلم به..تفسير الآيات (136- 137): {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين آخِراً باعتبار اتصافِهم بما مرَّ من الصفات الحميدةِ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببعيد منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضل، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ} بدلُ اشتمالٍ منه وقوله تعالى: {مَغْفِرَةٌ} خبرٌ له أو جزاؤهم مبتدأٌ ثانٍ ومغفرةٌ خبر له، والجملةُ خبرٌ لأولئك، وهذه الجملةُ خبر لقوله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ} إلخ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ الأنسبُ بنظم المغفرةِ المنبئةِ عن سابقة الذنبِ في سلك الجزاءِ، إذ على الوجهين يكون قولُه تعالى: {أولئك} إلخ جملةً مستأنفةً مبينةً لما قبلها كاشفةً عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين، ولم يُذكَرْ من أوصاف الأولين ما فيه شائبةُ الذنبِ حتى يُذكَرَ في مطلَع الجزاءِ الشاملِ لهما المغفرةُ، وتخصيصُ الإشارةِ بالآخِرين مع اشتراكهما في حكم إعدادِ الجنةِ لهما تعسُّفٌ ظاهر {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرةٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ من جهته تعالى. والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحُكمِ والتشريفِ {وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} عطفٌ على مغفرةٌ، والتنكيرُ المُشعِرُ بكونها أدنى من الجنة السابقةِ مما يؤيد رُجحانَ الوجهِ الأول {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدّرةٌ من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعولٌ به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جناتٌ خالدين فيها، ولا مَساغَ لأن يكون حالاً من جناتٌ في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير.{وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي ونعم أجرُ العاملين ذلك، أي ما ذُكر من المغفرة والجناتِ، والتعبيرُ عنهما بالأجر المشعرِ بأنهما يُستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضُّل لمزيد الترغيبِ في الطاعات والزجرِ عن المعاصي، والجملةُ تذييلٌ مختصٌّ بالتائبين حسبَ اختصاصِ التذييلِ السابقِ بالأولين وناهيك مضمونُهما دليلاً على ما بين الفريقين من التفاوت النيِّرِ والتبايُنِ البيِّن، شتانَ بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عز وجل وبين العاملين الحائزين لأُجرتهم وعمالتِهم.{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} رجوعٌ إلى تفصيل بقيةِ القصةِ بعد تمهيدِ مبادئ الرشدِ والصلاح وترتيبِ مقدماتِ الفوزِ والفلاحِ. والخلوُّ المُضِيُّ، والسننُ الوقائعُ، وقيل: الأممُ. والظرفُ إما متعلقٌ بخلَتْ أو بمحذوف وقع حالاً من سننٌ أي قد مضت من قبل زمانِكم أو كائنةً من قبلكم وقائعُ سنّها الله تعالى في الأمم المكذِّبة كما في قوله تعالى: {وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ} الخ، والفاءُ في قوله تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} للدِلالة على سببية خلوِّها للسير والنظر أو للأمر بهما، وقيل: المعنى على الشرط: أي إنْ شككتم فسيروا الخ، وكيف خبرٌ مقدمٌ لكان معلقٌ بفعل النظر، والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافضِ لأن الأصلَ استعمالُه بالجار..تفسير الآيات (138- 139): {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}{هذا} إشارةٌ إلى ما سلف من قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} إلى آخره {بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي تبيينٌ لهم، على أن اللامَ متعلقةٌ بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً له، وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاحٌ لسوء عاقبةِ ما هم عليه من التكذيب فإن الأمرَ بالسير والنظرِ وإن كان خاصاً بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه حملٌ للمكذبين أيضاً على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعانون من آثار دمارِهم وإن لم يكن الكلامُ مَسوقاً لهم {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما قيل: {لّلْمُتَّقِينَ} للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً وموعظةً لهم إنما هو تقواهم. ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما، أي هذا بيانٌ لمآل أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه، وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم عما هم عليه من التكذيب، وأن يُراد به ما يعُمّهم ويعُم غيرَهم من المتقين بالفعل، ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضاً ما يعُم ابتداءَهما والزيادةَ فيهما، وإنما قُدّم كونُه بياناً للمكذبين مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين، مع أنه المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم، وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه فأمرٌ مترتبٌ عليه، وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين أيضاً لما أن المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى والعظةِ، والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ، ويجوز أن يكون تعريفُ الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً، وهدى وموعظةٌ للمتقين منهم خاصة. وقيل: كلمةُ هذا إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر المتقين والتائبين والمُصِرِّين. وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} الآية، اعتراضٌ للحث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر العاملين. وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لابد أن يكون مقرِّراً لمضمون ما وقع في خلاله، ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا تعلقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان باعثاً على الإيمان زاجراً عن التكذيب، وقيل: إشارةٌ إلى القرآن ولا يخفى بُعدُه.{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} تشجيعٌ للمؤمنين وتقويةٌ لقلوبهم وتسليةٌ عما أصابهم يوم أحُدٍ من القتل والقرحِ، وكان قد قُتل يومئذ خمسةٌ من المهاجرين: حمزةُ بنُ عبدِ المطلّب ومصعبُ بنُ عميرٍ صاحبُ رايةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ ابنُ عمةِ النبي صلى الله عليه وسلم وعثمانُ بنُ مظعونٍ وسعدٌ مولى عتبةَ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين، ومن الأنصار سبعون رجلاً رضي الله عنهم أي لا تضعُفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزَنوا على مَنْ قتل منكم {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعل الفعلين، أي والحالُ أنكم الأعلَوْن الغالبون دون عدوِّكم فإن مصيرَ أمرِهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافِهم فهو تصريحٌ بالوعد بالنصر والغلبةِ بعد الإشعارِ به فيما سبق، أو وأنتم المعهودون بغاية علوِّ الشانِ لما أنكم على الحق وقتالُكم لله عز وجل وقَتْلاكم في الجنة، وهم على الباطل وقتالُهم للشيطان وقَتْلاهم في النار، وقيل: وأنتم الأعلَوْن حالاً منهم، حيث أصبتم منهم يومَ بدرٍ أكثرَ مما أصابوا منكم اليوم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلقٌ بالنهي أو بالأعلون وجوابُه محذوفٌ لدَلالة ما تعلق به عليه، أي إن كنتم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا فإن الإيمانَ يوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله تعالى وعدمَ المبالاة بأعدائه، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلَوْن فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ أو إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلَوْن.وأياً ما كان فالمقصودُ تحقيقُ المعلَّقِ به كما في قوله الأجير: إن كنتُ عمِلتُ لك فأعطني أجري ولذلك قيل: معناه إذ كنتم مؤمنين، وقيل: معناه إنْ بقِيتم على الإيمان..تفسير الآية رقم (140): {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}{ن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} القرحُ بالفتح والضم لغتان كالضَّعف والضُّعف وقد قرئ بهما، وقيل: هو بالفتح الجراحُ وبالضم ألَمُها، وقرئ بفتحتين، وقيل: القرح والقرح كالطرد والطرد، والمعنى إن نالوا منكم يومَ أحُدٍ فقد نِلتم منهم قبله يومَ بدرٍ ثم لم يُثَبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحقُّ بأن لا تضعُفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون. وقيل: كلا المَسَّيْنِ كان يوم أحُد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا عامة خيلِهم بالنبل {وَتِلْكَ الايام} إشارةٌ إلى الأيام الجاريةِ فيما بين الأممِ الماضيةِ والآتيةِ كافةً لاإلى الأيامِ المعهودةِ خاصةً من يوم بدرٍ ويومِ أحدٍ بل هي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً، والمرادُ بها أوقاتُ الظَفَرِ والغَلَبةِ {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} نُصَرِّفها بينهم نُديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى كقول من قال:والمداولةُ كالمعاورة، يقال: داولتُه بينهم فتداولوه أي عاورْتُه فتعاوروه. واسمُ الإشارةِ مبتدأ والأيامُ إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له ونداولها خبرُه أو خبره ونداولها حالٌ من الأيام والعاملُ معنى اسمِ الإشارةِ أو خبرٌ بعد خبرٍ وصيغةُ المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بين الأممِ قاطبةً سابقتِها ولاحقتِها وفيه ضربٌ من التسلية، وقوله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من غيرهم، أو العلمُ فيه مجازٌ عن التمييز بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ على المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه بالمعلوم من حيث إنه موجودٌ بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلكُ الجزاءِ لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة.وإطلاقُ الإيمانِ مع أن المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ لا ينطلق على غيره، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ كلِّ واحدٍ مما يُذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر، والجملةُ علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها قولُه تعالى: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} من المداولة المعهودةِ الجاريةِ بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللامُ متعلقةٌ بما دل عليه المطلقُ من الفعل المقيَّدِ بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعلِ المطلقِ باعتبار وقوعِه بينهما، والجملةُ معطوفةٌ على علة أخرى لها معتبرةٍ إما على الخصوص والتعيينِ محذوفة لدَلالة المذكورةِ عليها لكونها من مبادئها، كأنه قيل: نداولها بينكم وبين عدوِّكم ليظهرَ أمرُكم وليَعلَمَ الخ، فإن ظهورَ أعمالِهم وخروجَها من القوة إلى الفعل من مبادئ تمييزِهم عن غيرهم ومواجبِ تعلّقِ العلمِ الأزليِّ بها من تلك الحيثيةِ، وكذا الحالُ في باب التمثيل فتأملْ.وإما على العموم والإبهامِ للتنبيه على أن العللَ غيرُ منحصِرَةٍ فيها عُدِّد من الأمور وأن العبدَ يسوؤه ما يجري عليه من النوائب، ولا يشعُر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفيةِ ما لا يخطرُ ببال. كأنه قيل: نداولُها بينكم ليكونَ من المصالح كيت وكيت وليَعلَمَ الخ، وفيه من تأكيد التسليةِ ومزيدِ التبصِرَة ما لا يخفى. وتخصيصُ البيان بعلة هذا الفردِ من مطلقِ المداولةِ دون سائر أفرادِها الجاريةِ فيما بين بقيةِ الأممِ تعييناً أو إبهاماً لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ ببيانها ولك أن تجعلَ المحذوفَ المبْهَمَ عبارةً عن علل سائرِ أفرادِها للإشارة إجمالاً إلى أن كلَّ فردٍ من أفرادها له علةٌ داعيةٌ إليه كأنه قيل: نداولها بين الناس كافةً ليكونَ كيت وكيت من الحِكَم الداعيةِ إلى تلك الأفرادِ وليَعلمَ الخ، فاللامُ الأولى متعلقةٌ بالفعل المطلقِ باعتبار تقيُّدِه بتلك الأفرادِ، والثانيةُ باعتبار تقيّدِه بالفرد المعهودِ، وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه وليعلمَ الله الذين آمنوا فَعَل ذلك.{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} جمعُ شهيدٍ أي ويُكرِمَ ناساً منكم بالشهادة، وهم شهداءُ أحُدٍ. فمِنْ ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بيتخذ، أو بمحذوف وقعَ حالاً من شهداءَ أو جمعُ شاهدٍ أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبرِ على الشدائد وغيرِ ذلك من شواهد الصدقِ ليشهدوا على الأمم يومَ القيامةِ، فمِنْ بيانيةٌ لأن تلك الشهادةَ وظيفةُ الكلِّ دون المستشهَدين فقط، وأياً ما كان ففي لفظ الاتخاذ المُنْبىءِ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيمِ شأنِهم ما لا يخفى. وقوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله، ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ بمحبته تعالى لمقابليهم، والمرادُ بهم إما غيرُ الثابتين على الإيمان فالتقريرُ من حيث إن بغضَه تعالى لهم من دواعي إخراجِ المخلِصينَ المصطَفَيْنَ للشهادة من بينهم، وإما الكفرةُ الذين أُديل لهم، فالتقريرُ من حيث إن ذلك ليس بطريق النُصرةِ لهم، فإنها مختصةٌ بأوليائه تعالى، بل لِما ذُكر من الفوائد العائدةِ إلى المؤمنين.
|