الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.سورة الصافات: مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية..تفسير الآيات (1- 3): {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)}{والصافات صَفَّا} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ من غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسُها أي النَّاظمات أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ {فالزجرات زَجْراً} أي الفاعلاتِ للزَّجرِ أو الزَّاجراتِ لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرامِ العلويَّةِ والسُّفليَّةِ وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ. ومن جُملة ذلك زجرُ العبادِ عن المعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي، وصفًّا وزَجْراً مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعاً وزَجْراً بليغاً، وأمَّا ذِكراً في قولهِ تعالى: {فالتاليات ذِكْراً} فمفعولُ التَّالياتِ ذكراً عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ اللَّهِ تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضاً مصدرٌ مؤكِّد لما قبلَه فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثمَّ للزَّجرِ ثمَّ للتِّلاوةِ أو على العكسِ، وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو للدِّلالةِ على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلاً أو على العكس. وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه. وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ. أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقاً والعدوَّ في المعارك طَرْداً التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك. والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ، وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله:فغيرُ ظاهرةٍ في شيءٍ من الطَّوائفِ المذكورة، فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ. وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى: {والطير صافات} والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي، والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى. وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ. وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ. .تفسير الآيات (4- 6): {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جوابٌ للقسمِ. والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيد لما يعقبُه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى: {رَبّ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النَّمطِ البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وربُّ خبرٌ ثانٍ لأنَّ، أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرضِ وما بينهما من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها. والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ. وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنَّها ثلاثمائة وستُّون مشرقاً تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} أي القُربى منكم {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الكواكب} بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أن المرادَ بها الاسمُ، أي ما يُزان به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينةٍ. وقرئ بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بياناً لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ. هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدراً فالمعنى على تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها، وأصله بزينة الكواكب. وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها، وأصله بزينة الكواكب. والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمرَ في السنةِ المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك..تفسير الآيات (7- 10): {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}{وَحِفْظاً} منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبار المعنى كأنَّه قيل إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظاً {مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ. وإمَّا بإضمار فعلهِ، وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظاً من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} وقوله تعالى: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظِ السَّماءِ عنهم من التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ، ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جواباً عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم يحذفُ أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قولِ مَن قال:لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه، فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التَّنزيل الجليلِ عن أمثالها. وأصلُ يسمَّعون يتسمَّعُون. والملأُ الأعلى: الملائكةُ. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: هم الكَتَبةُ. وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاءَ إليهم. وقرئ: {يسمعُون} بالتَّخفيفِ {وَيَقْذِفُونَ} يُرمَون {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها {دُحُوراً} علَّةً للقذفِ أي للدُّحورِ وهو الطَّردُ. أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّدٌ له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ. وقرئ: {دَحُوراً} بفتح الدَّالِ أي قَذْفاً دَحُوراً مبالغاً في الطَّردِ. وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدراً كالقَبُولِ والولُوعِ {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي ولهم في الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناءٌ من واوِ يسمَّعون. ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ. وقرئ بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ وتشديدها، وأصلُهما اختطفَ {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي تبعَه ولحقَه. وقرئ: {فأتبعَه}. والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ {ثَاقِبٌ} مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم. قالُوا: وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعاً في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ. .تفسير الآيات (11- 16): {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)}{فاستفتهم} فاستخبر مُشركي مكَّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقاً وأشقُّ إيجاداً {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما. والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العُقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه. ومجيئُه بعد ذلك لاسيما قراءةُ مَن قرأ أمْ مَن عددنا. وقولُه تعالى: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم من الأممِ كعادٍ وثمود، ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم. والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء. وقرئ: {لازمٍ} و{لاتبٍ} {بَلْ عَجِبْتَ} أي من قُدرة الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث {وَيَسْخُرُونَ} من تعجُّبكَ وتقريرك للبعث. وقرئ بضمِّ التَّاءِ، على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها، وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها. أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه. والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ، أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظامِ الشَّيءِ. وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ {وَإِذَا ذُكّرُواْ} أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشيءٍ من المواعظِ. {لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتَّعظون، وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السُّخريةِ، ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها {وَقَالُواْ إِن هذا} أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريَّتهُ {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما} أي كان بعضُ أجزائِنا تُراباً وبعضُها عظاماً. وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ. والعاملُ في إذا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي نُبعث لا نفسه لأنَّ دونَه خطوباً لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ. وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعث بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكريرُ الهمزةِ في أئنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللاَّمِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ كما يُوهمه ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائها الصَّدارة كما في مثلِ قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} على رأي الجمهورِ، فإنَّ المعنى عندَهُم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ كما هُو المشهورُ. وقرئ بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ..تفسير الآيات (17- 22): {أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)}{أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون} رُفع على الابتداءِ، وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضاً مبعوثُون. وقيل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها، وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم. وقرئ: {أو آباؤُنا}.{قُلْ} تبكيتاً لهم {نِعْمَ} والخطابُ في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ. والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاَّءُ. وقرئ: {نَعِم} بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه. {فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة} هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه، أو ضميرُ البعثةِ. والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ. أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ. والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ {فَإِذَا هُم} قائمونَ من مراقدهم أحياءً {يَنظَرُونَ} يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يُفعل بهم {وَقَالُواْ} أي المبعوثونَ. وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُقِ والتَّقررِ {ياويلنا} أي هلاكنا احضُر فهذا أوانُ حضورِك. وقولُه تعالى: {هذا يَوْمُ الدين} تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا، وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضاً. وقولُه تعالى: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} كلامُ الملائكةِ جواباً لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ. وقيل هُو أيضاً من كلامِ بعضِهم لبعضٍ، والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ. وقولُه تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ} خطابٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ للملائكةِ أو من بعضِهم لبعضٍ بحشر الظَّلمةِ من مقامهم إلى الموقفِ. وقيل من الموقفِ إلى الجحيمِ {وأزواجهم} أي أشباهَهم ونظراءَهم من العُصاةِ، عابدُ الصَّنمِ مع عبدته وعابدُ الكوكبِ مع عَبَدتهِ، كقوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة} وقيل قرناءَهم من الشَّياطينِ وقيل نساءَهم اللاَّتي على دينهم {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ}..تفسير الآيات (23- 28): {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)}{مِن دُونِ الله} من الأصنامِ ونحوِها زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم. قيل هو عامٌ مخصوصٌ بقوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآيةَ الكريمةَ وأنت خبيرٌ بأنَّ الموصولَ عبارةٌ عن المشركين خاصَّةً جيء به لتعليل الحكمِ بما في حيِّزِ صلتهِ فلا عمومَ ولا تخصيصَ. {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} أي عرِّفُوهم طريقها ووجِّهوهم إليها وفيه تهكُّمٌ بِهم {وَقِفُوهُمْ} احبِسُوهم في الموقف كأنَّ الملائكة سارعُوا إلى ما أُمروا به من حشرِهم إلى الجحيم فأُمروا بذلك وعُلِّل بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} إيذاناً من أوَّلِ الأمرِ بأنْ ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحُوا بتأخيرِ العذابِ في الجملة بل ليُسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} بطريق التَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّهكُّمِ، أي لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتُم تزعمون في الدُّنيا. وتأخيرُ هذا السُّؤالِ إلى ذلك الوقتِ لأنَّه وقتُ تنجُّزِ العذابِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى النُّصرةِ وحالة انقطاعِ الرَّجاءِ عنها بالكُلِّية، فالتَّوبيخُ والتَّقريعُ حينئذٍ أشدُّ وقعاً وتأثيراً. قرئ: {لا تَتَناصرون}، و{لا تنَّاصرُون} بالإدغامِ {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} مُنقادون خاضعُون لظهورِ عجزهم وانسدادِ بابِ الحِيلِ عليهم أو أسلم بعضُهم بعضاً وخذله عن عجزٍ فكلُّهم غيرُ منتصرٍ.{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء {يَتَسَاءلُونَ} يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جواباً عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيفَ تساءلون فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدُّنيا {عَنِ اليمين} عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السَّانحِ فتبعناكم فهلكنا، مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يميناً ويُتيمَّن بالسَّانحِ أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون أنَّهم على الحقِّ.
|