الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له. وفي معالجته مقامان أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب. الثاني دفع العارض منه بالأسباب التي بها يتكبر الإنسان على غيره. المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما: أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة وأما معرفته نفسه فهو أيضاً يطول ولكن نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع والمذلة ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته وقد قال تعالى " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره " فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقد كان في حيز العدم دهوراً بل لم يكن لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم وقد كان كذلك في القدم ثم خلقه الله من أرذل الأشياء ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظماً ثم كسا العظم لحماً فقد كان هذا بداية وجوده حيث كانت شيئاً مذكوراً فما صار شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت! إذ لم يخلق في ابتدائه كاملاً بل خلقه جماداً ميتاً لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته. فهذا معنى قوله " من أي شيء خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج " ومعنى قوله " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه " كذلك خلقه أولاً ثم أمنن عليه فقال " ثم السبيل يسره " وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت. وكذلك قال " من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا " ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جماداً ميتاً تراباً أولاً ونطفة ثانياً وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعدما كان فاقداً للبصر وقواه بعد الضعف وعلمه بعد الجهل وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع وكساه بعد العري وهداه بعد الضلال. فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل الإنسان كيف أظهره فقال " أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم تنتشرون " فانظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجوداً بعد العدم وحياً بعد الموت وناطقاً بعد البكم وبصيراً بعد العمى وقوياً بعد الضعف وعالماً بعد الجهل ومهدياًبعد الضلال وقادراً بعد العجز وغنياً بعد الفقر فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء وأي قلة أقل من العدم المحض ثم صار بالله شيئاً. وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض أيضاً ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا. ولذلك امتن عليه فقال " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين " وعرف خسته أولاً فقال " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة " ثم ذكر منته عليه فقال " فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى " ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولاً بالاختراع. فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله. نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يعدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى رضي أم سخط فيجوع كرهاً ويعطش كرهاً ويمرض كرهاً ويموت كرهاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه ويشتهى الشيء وربما يكون هلاكه فيه ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه ويستشبع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما يهواه في دنياه فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فني عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ولا شيء من غيره فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه وأنى يليق الكبر به لولا جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله. وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقول تعالى " ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره " ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جماداً كما كان أول مرة لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميماً رفاتاً ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما وبخديه فيقطعهما وبسائر أجزائه فيصير روثاً في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير تراباً يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقوداً بعدما كان موجوداً. وصار كأن لم يغن بالأمس حصيداً كما كان في أول أمره أمداً مديداً وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك تراباً. لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول وما هو: فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب فينقطع قلبه فزعاً من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه فإذا شاهده قال " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى " ثم إذا شاء أنشره " فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر فقد ظهره له أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلباً أو خنزيراً ليصير مع البهائم تراباً ولا يكون إنساناً يسمع خطاباً أو يلقى عذاباً وإن كان عند الله مستحقاً للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق. ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة فمن هذا حاله في العاقبة - إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو - كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئاً حتى يعتقد له فضلاً وأي عبد لم يذنب ذنباً استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله. أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه ذلك حزناً وخوفاً وإشفاقاً ومهانة وذلاً. فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر. وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه " كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وقيل لسلمان لم لا تلبس ثوباً جديداً فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً أشار به إلى العتق في الآخرة. ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعاً وقيل الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عماداً ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود وقد كانت العرب قديماً يأنفون من الانحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه حتى قال حكيم بن حزام: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة. الأول: النسب فمن يعتريه الكبر من جهة النسب ليداو قلبه بمعرفة أمرين. " أحدهما " أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ولذلك قيل: لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا فالمتكبر بالنسب إن كان خسيساً في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره بل لو كان الذي ينسب إليه حياً لكان له أن يقول: الفضل لي: ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات! بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة. الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال " الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنوناً كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة. فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول: افتخر بالقريب دون البعيد فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربة فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل. وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان. فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئاً من كبره لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره. فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب. إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه السبب الثاني: التكبر بالجمال ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم. ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه: الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلاً عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه. وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار. إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر قال أنس رحمه الله: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ويقول: خرج أحدكم من مجرى البول مرتين. وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز: ما هذه مشية من في بطنه خراء إذ رآه يتبختر وكان ذلك قيل خلافته وهذا أوله ووسطه. ولو ترك نفسه في حياته يوماً لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط. فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ صار هشيماً تذروه الرياح كيف ولو كان جمالة باقياً وعن هذه القبائح خالياً لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها. السبب الثالث: التكبر بالقوة والأيدي ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد فيه يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه لو سلبه الذباب شيئاً لم يستنفذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة. فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته! ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم السبب الرابع والخامس: الغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان كالجمال والقوة والعلم. وهذا أقبح أنواع الكبر فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على قلب هو أشد غلياناً من القدر فإن تغير عليه كان أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقك به اليهودي! وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلاً مفلساً فهذه أسباب ليست في ذاته وما هو في ذاته ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال فالتفاخر به غاية الجهل وكل ما ليس إليك فليس لك وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك وما أنت إلا عبد مملوك لا ومثاله: أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة خيوله وغلمانه إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه كانا مملوكين له فعلم ذلك وحكم به الحاكم فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف أنه له مالكاً ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوساً في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله ولا يعرف طريقاً في الخلاص البتة أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته وكماله أم يذل نفسه ويخضع وهذا حال كل عاقل يصير فإنه يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك. فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة. فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل فإنهما كمالان في النفس جديراً بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضاً نوع من الجهل خفي كما سنذكره. السبب السادس: الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عند الناس وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلاً إلا إذا كان معهما علم وعمل. ولذلك قال كعب الأحبار: إن للعلم طغياناً كطغيان المال. وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم. ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين: أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما يحتمل عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل النار فيقولون ما لك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز وجل " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً " أراد به علماء اليهود. وقال في بلعم بن باعوراء " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " حتى بلغ " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوتي بعلم كتاباً فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك. وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيراً فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه. فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمي! ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة! ويقول الآخر: ليتني كنت طيراً أوكل! ويقول الآخر: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً! كل ذلك خوفاً من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالاً من الطير ومن التراب. ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق. ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولاً لا يخرجه من كل ما هو فيه عرياناً ذليلاً ويلقيه على بابه في الحر والشمس زماناً طويلاً حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه وفتش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه ولم يتكبر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة. الأمر الثاني أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لنفسك قدراً فلا قدر لك عندي فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه. وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلاً أو تصور ذلك. وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى رداء الكبرياء قصمه وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم فهذا أيضاً مما يبعثه على التواضع لا محالة. فإن قلت: فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق والمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفسق والمبتدع أكثر فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن بتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا أبا بكر وحده والعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة. فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد. إن نظر إلى جاهل قال: هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني. وإن نظر إلى عالم قال: هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سناً قال: هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله فكيف أكون مثله وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال: ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه! ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته لا أن يشتغل بخوف غيره فإن الشفيق بسوء الظن مولع وشفقه كل إنسان على نفسه. فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره حتى كأن كل واحد هو وحده في مصيبته وخطره. فإن قلت: فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما ثم مع ذلك أتواضع لهما والجمع بينهما متناقص فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس علىأكثر الخلق إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس والإدلال بالعلم والورع فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضاً يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون. والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور: أحدها التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك. " والثاني " أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك فله المنة فيه لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر. " والثالث " ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه. فإن قلت: فكيف أغضب مع هذه الأحوال فأقول: تغضب لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له لا لنفسك وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجياً وصاحبك هالكاً بل يكون خوفك على نفسك بما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة وأعرفك ذلك بمثال تعلم أنه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول: إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه. فإن كان الغلام محباً مطيعاً لمولاه فلا يجد بداً أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام. فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة. فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع. وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك غاية الغرور. فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم الأمر. السبب السابع: التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضاً فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان " لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " وقال صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم. فإن قال العابد: ذلك العالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له: أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات وكما أن العلم يكف أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا كان هذا الأمر فإن قلت: فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله عليه السلام " فضل العالم على العابد كفضلي على أدني رجل من أصحابي " فاعلم أن ذلك كان ممكناً لو علم العالم عاقبة أمره وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هيناً وهو عند الله عظيم وقد مقته به وإذا كان هذا ممكناً كان على نفسه خائفاً فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفاً على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال. فهذا العابد مع العالم فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوباً وأكثر منه عبادة وأشد منه حباً لله. وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك. فلا ينبغي أن تتكبرعليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنباً لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه إذ ذنوب القلب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتاً وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه وقد كفر الله بذلك عن سيئاته فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات فهذا ممكن والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريباً عندك إن كنت مشفقاً على نفسك فلا تتفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا يخفف شيئاً من عذابك فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن ترى نفسك فوق غيرك. وقد قال وهب بن منبه: ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسعة حتى بلغ العاشرة فقال: العاشرة! وما العاشرة! بها شاد مجده وبهما علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيراً منه. وإنما الناس عنده فرقتان: فرقة هي أفضل من هوأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى. فهو يتواضع للفرقتين جميعاً بقلبه إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به وإن رأى من هو شر منه قال: لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفاً من العاقبة ويقوم لعل بر هذا باطن فذلك خير له ولا أدري لعل فيه خلقاً كريماً بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال وبري ظاهر فذلك شر لي. فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها ثم قال: فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه. فهذا كلامه. وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقياً وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فما له سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال. نعم إن غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيراً من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روي أن عابداً أوى إلى جبل فقيل له في النوم: ائت فلاناً الإسكاف فسله أن يدعو لك. فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب فيتصدق ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول: إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة الله فأتى في النوم ثانياً فقيل له: ائت فلاناً الإسكاف فقل له: ما هذا الصفار الذي بوجهك فأتاه فسأله فقال له: ما رأيت أحداً من الناس إلى وقع لي: أنه سينجو وأهلك أنا فقال العابد: بهذه. والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى " يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " وقال تعالى " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على الدءوب بالإشفاق فقال تعالى مخبراً عنهم " يسحبون الليل والنهار لا يفترون وهم من خشيته مشفقون " فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل - وينكشف عند خاتمة الأجل - غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك. فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك. والتواضع دليل الخوف وهو مسعد فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال. فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت عادت إلى طبعها ونسيت وعدها فعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس. وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانات هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت الامتحانات كثيرة. الامتحان الأول: أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحق فذلك يدل على أن فيه كبراً دفيناً فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه. أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى. وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول: ما أحسن ما فطنت له وقد كنت غافلاً عنه فجزاك الله خيراً كما نبهتني له! فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها. فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعاً وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء فليعالج الرياء بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند الله لا عند الخلق إلى غير ذلك من أدوية الرياء. وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعاً ففيه الكبر والرياء جميعاً ولا ينفعه الخلاص من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني. فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعاً مهلكان. الامتحان الثاني: أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس فيه الصدور تحتهم فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر فليواظب عليه تكلفاً حتى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضعاً وهو عين الكبر فإن ذلك يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضاً بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال الامتحان الثالث: أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإن شق ذلك عليه فهو كبر فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر. الامتحان الرابع: أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلق الطريق فهو كبر وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى " إلا من أتى الله بقلب سليم " ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك! قال: أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة وفي الخبر " من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر. الامتحان الخامس: أن يلبس ثياباً بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلوة كبر. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وقد قال صلى الله عليه وسلم " من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر وقال عليه الصلاة والسلام " إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس مني. وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواماً يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس عباءة فصلى فيها بالناس. وهذه مواضيع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه.
|