الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن من أخذ مالاً من سلطان فلا بد له من النظر في ثلاثة أمور: في مدخل ذلك إلى يد السلطان من أين هو وفي صفته التي بها يستحق الأخذ. وفي المقدار الذي يأخذه هل يستحقه إذا أضيف إلى حاله وحال شركائه في الاستحقاق. النظر الأول: في جهات الدخل للسلطان: مأخوذ من الكفار. وهو الغنيمة المأخوذة بالقهر. والفيء وهو الذي حصل من مالهم في يده من غير قتال والجزية وأموال المصالحة وهي التي تؤخذ بالشروط والمعاقدة. والقسم الثاني: المأخوذ من المسلمين فلا يحل منه إلا قسمان: المواريث وسائر الأموال الضائعة التي لا يتعين لها مالك والأوقاف التي لا متولي لها. أما الصدقات فليست توجد في هذا الزمان. وما عدا ذلك من الخراج المضروب على المسلمين والمصادرات وأنواع الرشوة كلها حرام. فإذا كتب لفقيه أو غيره إدرار أو صلة أو خلعة على جهة فلا يخلو من أحوال ثمانية: فإنه إما أن يكتب له ذلك على الجزية أو على المواريث أو على الأوقاف أو على ملك أحياه السلطان أو على عامل خراج المسلمين أو على بياع من جملة التجار أو على الخزانة. فالأول: هو الجزية وأربعة أخماسها للمصالح وخمسها لجهات معينة. فما يكتب على الخمس من تلك الجهات أو على الأخماس الأربعة لما فيه مصلحة وروعي فيه الاحتياط في القدر فهو حلال بشرط أن لا تكون الجزية إلا مضروبة على وجه شرعي ليس فيها زيادة على دينار أو على أربعة دنانير فإنه أيضاً محل الاجتهاد وللسلطان أن يفعل ما هو في محل الاجتهاد وبشرط أن يكون الذمي الذي تؤخذ الجزية منه مكتسباً من وجه لا يعلم تحريمه فلا يكون عامل السلطان ظالماً ولا بائع خمر ولا صبياً ولا امرأة إذ لا جزية عليهما. فهذه أمور تراعى في كيفية ضرب الثاني: المواريث والأموال الضائعة فهي للمصالح والنظر أن الذي خلفه هل كان ماله كله حراماً أو أكثره أو أقله وقد سبق حكمه فإن لم يكن حراماً بقي النظر في صفة من يصرف إليه بأن يكون في الصرف إليه مصلحة ثم في المقدار المصروف. الثالث: الأوقاف وكذا يجري النظر فيها كما يجري في الميراث مع زيادة امر وهو شرط الواقف حتى يكون المأخوذ موافقاً له في جميع شرائطه. الرابع: ما أحياه السلطان وهذا لا يعتبر فيه شرط إذ له أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء أي قدر شاء. وإنما النظر في أن الغالب أنه أحياه بإكراه الأجراء أو بأداء أجرتهم من حرام. فإن الإحياء يحصل بحفر القناة والأنهار وبناء الجدران وتسوية الأرض ولا يتولاه السلطان بنفسه. فإن كانوا مكرهين على الفعل لم يملكه السلطان وهو حرام وإن كانوا مستأجرين ثم قضيت أجورهم من الحرام فهذا يورث شبهة قد نبهنا عليها في تعلق الكراهة بالأعواض. الخامس: ما اشتراه السلطان في الذمة من أرض أو ثياب خلعة أو فرس أو غيره فهو ملكه وله أن يتصرف فيه ولكنه سيقضي ثمنه من حرام وذلك يوجب التحريم تارة والشبهة أخرى. وقد سبق تفصيله. السادس: أن يكتب على عامل خرج المسلمين أو من يجمع أموال القسمة والمصادرة وهو الحرام السحت الذي لا شبهة فيه وهو أكثر الإدرارات في هذا الزمان إلا ما على أراضي العراق فإنها وقف عند الشافعي رحمه الله على مصالح المسلمين. السابع: ما يكتب على بياع يعامل السلطان فإنه كان لا يعامل غيره فماله كمال خزانة السلطان.
وإن كان يعامل غير السلاطين أكثر فما يعطيه قرض على السلطان وسيأخذ بدله من الخزانة فالخلل يتطرق إلى العوض. وقد سبق حكم الثمن الحرام. الثامن: ما يكتب على الخزانة أو على عامل يجتمع عنده من الحلال والحرام فإن لم يعرف للسلطان دخل إلا من الحرام فهو سحت محض. وإن عرف يقيناً أن الخزانة تشتمل على مال حلال ومال حرام واحتمل ان يكون ما يسلم إليه بعينه من الحلال احتمالاً قريباً له وقع في النفس واحتمل أن يكون من الحرام وهو الأغلب لأن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز فقد اختلف الناس في هذا فقال قوم: كل ما لا أتيقن أنه حرام فلي أن آخذه وقال آخرون: لا يحل أن يأخذ ما لم يتحقق أنه حلال فلا تحل شبهة أصلاً. وكلاهما إسراف والاعتدال ما قدمنا ذكره وهو الحكم بأن الأغلب إذا كان حراماً حرم وإن كان الأغلب حلالاً وفيه يقين حرام فهو موضع توقفنا فيه. كما سبق. ولقد احتج من جوز اخذ أموال السلاطين إذا كان فيها حرام وحلال. مهما لم يتحقق أن عين المأخوذ حرام. بما روي عن جماعة من الصحابة أنهم أدركوا أيام الأئمة الظلمة وأخذوا الأموال: منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وجرير بن عبد الله وجابر وأنس بن مالك والمسور بن مخرمة. فأخذ أبو سعيد وأبو هريرة من مروان ويزيد بن عبد الملك. وأخذ بن عمر وابن عباس من الحجاج. وأخذ كثير من التابعين منهم كالشعبي وإبراهيم والحسن وابن أبي ليلى. وأخذ الشافعي من هارون الرشيد ألف دينار في دفعة. وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمة وقال علي رضي الله عنه: خذ ما يعطيك السلطان فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر. وإنما ترك من ترك العطاء منهم تورعاً مخافة على دينه أن يحمل على ما لا يحل. ألا ترى قول أبي ذر للأحنف بن قيس: خذ العطاء ما كان نحلة فإذا كان أثمان دينكم فدعوه وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا أعطينا قبلنا وإذا منعنا لم نسأل. وعن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان إذا أعطاه معاوية سكت وإن منعه وقع فيه. وعن الشعبي عن مسروق: لا يزال العطاء بأهل العطاء حتى يدخلهم النار. أي يحمله ذلك على الحرام لا لأنه في نفسه حرام. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن المختار كان يبعث إليه المال فيقبله ثم يقول: لا أسأل أحداً ولا أرد ما رزقني الله. وأهدى إليه ناقة فقبلها وكان يقال لها ناقة المختار ولكن هذا يعارضه ما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يرد هدية أحد إلا هدية المختار والإسناد في رده أثبت. وعن نافع أنه قال: بعث ابن معمر إلى ابن عمر بستين ألفاً فقسمها على الناس ثم جاءه سائل فاستقرض له من بعض من أعطاه وأعطى السائل. ولما قدم الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه فقال: لأجيزك بجائزة لم أجزها أحداً قبلك من العرب ولا أجيزها أحداً بعدك من العرب قال: فأعطاه أربعمائة ألف درهم فأخذها. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: لقد رأيت جائزة المختار لابن عمر وابن عباس فقبلاها فقيل ما هي قال: مال وكسوة. وعن الزبير بن عدي أنه قال: قال سليمان: إذا كان لك صديق عامل أو تاجر يقارف الربا فدعاك إلى طعام أو نحوه أو أعطاك شيئاً فاقبل فإن المهنأ لك وعليه الوزر. فإن ثبت هذا في المربي فالظالم في معناه. وعن جعفر عن أبيه أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يقبلان جوائز معاوية. وقال حكيم بن جبير: مررنا على سعيد بن جبير وقد جعل عاملاً على أسفل الفرات فأرسل إلى العشارين أطعمونا مما عندكم فأرسلوا بطعام فأكل وأكلنا معه. وقال العلاء بن زهير الأزدي: أتى إبراهيم أبي. وهو عامل على حلوان. فأجازه فقبل وقال إبراهيم: لا بأس بجائزة العمال إن للعمال مؤنة ورزقاً. ويدخل بيت ماله الخبيث والطيب فما أعطاك فهو من طيب ماله. فقد أخذ هؤلاء كلهم جوائز السلاطين الظلمة وكلهم طعنوا على من أطاعهم في معصية الله تعالى. وزعمت هذه الفرقة أن ما ينقل من امتناع جماعة من السلف لا يدل على التحريم بل على الورع كالخلفاء الراشدين وأبي ذر وغيرهم من الزهاد فإنهم امتنعوا من الحلال المطلق زهداً ومن الحلال الذي يخاف إفضاؤه إلى محذور ورعاً وتقوى. فإقدام هؤلاء يدل على الجواز وامتناع أولئك لا يدل على التحريم. وما نقل عن سعيد بن المسيب أنه ترك عطاءه في بيت المال حتى اجتمع بضعة وثلاثين ألفاً وما نقل عن الحسن من قوله لا أتوضأ من ماء صيرفي ولو ضاق وقت الصلاة لأني لا أدري أصل ماله كل ذلك ورع لا ينكر واتباعهم عليه أحسن من اتباعهم على الاتساع ولكن لا يحرم اتباعهم على الاتساع أيضاً. فهذه هي شبهة من يجوز أخذ مال السلطان الظلام. والجواب أن ما نقل من أخذ هؤلاء محصور قليل بالإضافة إلى ما نقل من ردهم وإنكارهم وإن كان يتطرق إلى امتناعهم احتمال الورع فيتطرق إلى أخذ من أخذ ثلاثة احتمالات متفاوتة في الدرجة بتفاوتهم في الورع فإن للورع في حق السلاطين أربع درجات: الدرجة الأولى: أن لا يأخذ من أموالهم شيئاً أصلاً كما فعله الورعون منهم وكما كان يفعله الخلفاء الراشدون حتى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقسم مال بيت المال يوماً فدخلت ابنة له وأخذت درهماً من المال فنهض عمر في طلبها حتى سقطت الملحفة من أحد منكبيه ودخلت الصبية إلى بيت أهلها تبكي وجعلت الدرهم في فيها فأدخل عمر إصبعه فأخرجه من فيها وطرحه على الخراج وقال: أيها الناس ليس لعمر ولا لآل عمر إلا ما للمسلمين قريبهم وبعيدهم. وكسح أبو موسى الأشعري بيت المال فوجد درهماً فمر بني لعمر رضي الله عنه فأعطاه إياه فرأى عمر ذلك في يد الغلام فسأله عنه فقال أعطانيه أبو موسى فقال: يا أبا موسى ما كان في أهل المدية بيت أهون عليك من آل عمر أردت أن لا يبقى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد إلا طلبنا بمظلمة وردهم الدرهم إلى بيت المال. هذا مع أن المال كان حلالاً ولكن خاف أن لا يستحق هو ذلك القدر فكان يستبرئ لدينه ويقتصر على الأقل امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ولقوله: " ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه " ولما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشديدات في الأموال السلطانية حتى قال صلى الله عليه وسلم حين بعث عبادة بن الصامت إلى الصدقة: " اتق الله يا أبا الوليد لا تجئ يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك له رعاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثؤاج " فقال: يا رسول الله أهكذا يكون قال: " نعم والذي نفسي بيده إلا من رحم الله ". قال: فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبداً وقال صلى الله عليه وسلم: " إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا " وإنما خاف التنافس في المال. ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث طويل يذكر فيه مال بيت المال: إني لم أجد نفسي فيه إلا كالوا لي مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وروي أن ابناً لطاوس افتعل كتاباً عن لسانه إلى عمر بن عبد العزيز فأعطاه ثلاثمائة دينار فباع طاوس ضيعة له وبعث من ثمنها إلى عمر بثلاثمائة دينار هذا مع أن السلطان ليس مثل عمر بن عبد العزيز. فهذه الدرجة العليا في الورع. الدرجة الثانية: هو أن يأخذ مال السلطان ولكن إنما يأخذ إذا علم أن ما يأخذه من جهة حلال فاشتمال يد السلطان على حرام آخر لا يضره وعلى هذا ينزل جميع ما نقل من الآثار أو أكثرها أو ما اختص منها بأكابر الصحابة والورعين منهم مثل ابن عمر فإنه كان من المبالغين في الورع فكيف يتوسع في مال السلطان وقد كان من أشدهم إنكاراً عليهم وأشدهم ذماً لأموالهم وذلك أنهم اجتمعوا عند ابن عامر. وهو في مرضه وأشفق على نفسه من ولايته وكونه مأخوذاً عند الله تعالى بها. فقالوا له: إنا لنرجو لك الخير حفرت الآبار وسقيت الحاج وصنعت وصنعت وابن عمر ساكت فقال: ماذا تقول يا ابن عمر فقال: أقول ذلك إذا طاب المكسب وزكت النفقة وسترد فترى. وفي حديث آخر أنه قال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث وإنك قد وليت البصرة ولا أحسبك إلا قد أصبت منها شراً. فقال له ابن عامر: ألا تدعو لي فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول " وقد وليت البصرة فهذا قوله فيما صرفه إلى الخيرات. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في أيام الحجاج: ما شبعت من الطعام منذ انتبهت الدار إلى يومي هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه فقيل: أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه فقال: أما إني لا أختمه بخلابه ولكن أكره أن يجعل فيه ما ليس منه وأكره أن يدخل بطني غير طيب فهذا هو المألوف منهم وكان ابن عمر لا يعجبه شيء إلا خرج عنه فطلب منه نافع بثلاثين ألفاً فقال: إني أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر وكان هو الطالب اذهب فأنت حر. وقال أبو سعيد الخدري: ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا إلا ابن عمر فبهذا يتضح أنه لا يظن به وبمن كان في منصبه أنه أخذ مالاً يدري أنه حلال.
الدرجة الثالثة: أن يأخذ ما أخذه من السلطان ليتصدق به على الفقراء أو يفرقه على المستحقين فإن ما لا يتعين مالكه هذا حكم الشرع فيه. فإذا كان السلطان إن لم يأخذ منه لم يفرقه واستعان به على ظلم فقد نقول أخذه منه وتفرقته أولى من تركه في يده وهذا قد رآه بعض العلماء وسيأتي وجهه. وعلى هذا ينزل ما أخذه أكثرهم ولذلك قال ابن المبارك: إن الذين يأخذون الجوائز اليوم ويحتجون بابن عمر وعائشة ما يقتدون بهما لأن ابن عمر فرق ما أخذ حتى استقرض في مجلسه بعد تفرقته ستين ألفاً وعائشة فعلت مثل ذلك وجابر بن زيد جاءه مال فتصدق به وقال: رأيت أن آخذه منهم وأتصدق أحب إلي من أن أدعها في أيديهم وهكذا فعل الشافعي رحمه الله بما قبله من هارون الرشيد فإنه فرقه على قرب حتى لم يمسك لنفسه حبة واحدة. الدرجة الرابعة: أن لا يتحقق انه حلال ولا يفرق بل يستبقي ولكن يأخذ من سلطان أكثر ماله حلال وهكذا كان الخلفاء في زمان الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعد الخلفاء الراشدين ولم يكن أكثرهم مالهم حراماً. ويدل عليه تعليل علي رضي الله عنه حيث قال: فإن ما يأخذه من الحلال أكثر. فهذا مما قد جوزه جماعة من العلماء تعويلاً على الأكثر. ونحن إنما توقفنا فيه في حق آحاد الناس ومال السلطان أشبه بالخروج عن الحصر فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذ ما لم يعلم أنه حرام اعتماداً على الأغلب وإنما منعناه إذا كان الأكثر حراماً فإذا فهمت هذه الدرجات تحققت أن ادرارات الظلمة في زماننا لا تجري مجرى ذلك وأنها تفارقه من وجهين قاطعين: أحدهما: أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها وكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة لا وجود لها وليس يدخل منها شيء في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية وأنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء له بالشرط ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين والوجه الثاني: أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم ومتشوفين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم وكانوا يبعثون إليهم من غير سؤال وإذلال بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم ويفرحون به وكانوا يأخذون منهم ويفرقون ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم بل يدعون عليهم ويطلقون اللسان فيهم وينكرون المنكرات منهم عليهم فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم ولم يكن يأخذهم بأس فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم والتكثر بهم والاستعانة بهم على أغراضهم والتجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم. فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً وبالتردد في الخدمة ثانياً وبالثناء والدعاء ثالثاً وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم أنه حرام أو يشك فيه فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين. ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم وكل ذلك معصية. على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا. فإذا قد تبين مما تقدم مداخل أموالهم وما يحل منها وما لا يحل. فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته يساق إليه ذلك. لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل وخدمته ولا إلى الثناء عليهم وتزكيتهم ولا إلى مساعدتهم. فلا يحرم الأخذ ولكن يكره لمعان سننبه عليها في الباب الذي يلي هذا.
النظر الثاني من هذا الباب: في قدر المأخوذ وصفة الآخذ: ولنفرض المال من أموال المصالح كأربعة أخماس الفيء والمواريث فإن ما عداه مما قد تعين مستحقه إن كان من وقف أو صدقة أو خمس فيء أو خمس غنيمة وما كان من ملك السطان مما أحياه أو اشتراه فله أن يعطي ما شاء لمن شاء. وإنما النظر في الأموال الضائعة ومال المصالح فلا يجوز صرفه إلا إلى من فيه مصلحة عامة أو هو محتاج إليه عاجز عن الكسب فأما الغني الذي لا مصلحة فيه فلا يجوز صرف مال بيت المال إليه هذا هو الصحيح وإن كان العلماء قد اختلفوا فيه. وفي كلام عمر رضي الله عنه ما يدل على أن لطل مسلم حقاً في بيت المال لكونه مسلماً مكثراً جمع الإسلام ولكنه مع هذا ما كان يقسم المال على المسلمين كافة بل على مخصوصين بصفات. فإذا ثبت هذا فكل من يتولى أمراً يقوم به تتعدى مصلحته إلى المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه فله في بيت المال حق الكفاية. ويدخل فيه العلماء كلهم أعني العلوم التي تتعلق بمصالح الدين من علم الفقه والحديث والتفسير والقراءة حتى يدخل فيه المعلمون والمؤذنون. وطلبة هذه العلوم أيضاً يدخلون فيه فإنهم إن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطلب. ويدخل فيه العمال وهم الذين ترتبط مصالح الدنيا بأعمالهم وهم الأجناد المرتزقة الذين يحرسون المملكة بالسيوف عن أهل العداوة وأهل البغي وأعداء الإسلام. ويدخل فيه الكتاب والحساب والوكلاء وكل من يحتاج إليه في ترتيب ديوان الخراج أعني العمال على الأموال الحلال لا على الحرام فإن هذا المال للمصالح. والمصلحة إما أن تتعلق بالدين أو بالدنيا فبالعلماء حراسة الدين وبالأجناد حراسة الدنيا. والدين والملك توأمان فلا يستغني أحدهما عن الآخر. والطبيب وإن كان لا يرتبط بعلمه أمر ديني ولكن يرتبط به صحة الجسد والدين يتبعه فيجوز أن يكون له ولمن يجري مجراه في العلوم المحتاج إليها في مصلحة الأبدان أو مصلحة البلاد إدرار من هذه الأموال ليتفرغوا لمعالجة المسلمين أعني من يعالج منهم بغير أجرة وليس يشترط في هؤلاء الحاجة بل يجوز أن يعطوا مع الغنى. فإن الخلفاء الراشدين كانوا يعطوا المهاجرين والأنصار ولم يعرفوا بالحاجة. وليس يتقدر أيضاً بمقدار بل هو إلى اجتهاد الإمام وله أن يوسع ويغني وله أن يقتصر على الكفاية على ما يقتضيه الحال وسعة المال. فقد أخذ الحسن عليه السلام من معاوية في دفعة واحدة أربعمائة ألف درهم. وقد كان عمر رضي الله عنه يعطي لجماعة اثني عشر ألف درهم نقرة في السنة. وأثبتت عائشة رضي الله عنها في هذه الجريدة ولجماعة عشرة ألف ولجماعة ستة آلاف وهكذا. فهذا مال هؤلاء فيوزع عليهم حتى لا يبقى منه شيء. فإن خص واحداً منهم بمال كثير فلا بأس. وكذلك للسلطان أن يخص من هذا المال ذوي الخصائص بالخلع والجوائز فقد كان يفعل ذلك في السلف ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة. ومهما خص عالم أو شجاع بصلة كان فيه بعث للناس وتحريض على الاشتغال والتشبه به فهذه فائدة الخلع والصلات وضروب التخصيصات وكل ذلك منوط باجتهاد السلطان. وإنما النظر في السلاطين الظلمة في شيئين: أحدهما: أن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته وهو إما معزول أو واجب العزل فكيف يجوز أن يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان. والثاني: أنه ليس يعمم بماله جميع المستحقين فكيف يجوز للآحاد أن يأخذوا أفيجوز لهم الأخذ يقدر حصصهم أم لا يجوز أصلاً أم يجوز كل واحد ما أعطى. أما الأول: فالذي نراه أنه لا يمنع أخذ الحق لأن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له كما تجب طاعة الأمراء إذ قد ورد في الأمر بطاعة الأمراء والمنع من سل اليد عن مساعدتهم أوامر وزواجر فالذي نراه: أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس رضي الله عنه وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة. وقد ذكرنا في كتاب المستظهري المستنبط من كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار تأليف القاضي أبي الطيب في الرد على أصناف الروافض من الباطنية ما يشير إلى وجه المصلحة فيه. والقول الوجيز أنا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفاً إلى مزايا المصالح. ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة. فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة. ومن استبد بالشوكة وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة فهو سلطان نافذ الحكم والقضاء في أقطار الأرض ولاية نافذة الأحكام. وتحقيق هذا قد ذكرناه في أحكام الإمامة من كتاب الاقتصاد في الاعتقاد فلسنا نطول الآن به. وأما الإشكال الآخر وهو أن السلطان إذا لم يعمم بالعطاء كل مستحق فهل يجوز للواحد أن يأخذ منه فهذا مما اختلف العلماء فيه على أربع مراتب فغلا بعضهم وقال: كل ما يأخذه فالمسلمون كلهم فيه شركاء ولا يدري أن حصته منه دانق أو حبة فليترك الكل. وقال قوم: له أن يأخذ قدر قوت يومه فقط فإن هذا القدر يستحقه لحاجته على المسلمين. وقال قوم: له قوت سنة فإن أخذ الكفاية كل يوم عسير وهو ذو حق في هذا المال فكيف يتركه وقال قوم: إنه يأخذ ما يعطى والمظلوم هم الباقون. وهذا هو القياس لأن المال ليس مشتركاً بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين ولا كالميراث بين الورثة لأن ذلك صار ملكاً لهم. وهذا لو لم يتفق قسمه حتى مات هؤلاء لم يجب التوزيع على ورثتهم بحكم الميراث. بل هذا الحق غير متعين وإنما يتعين بالقبض. بل هو كالصدقات ومهما أعطي الفقراء حصتهم من الصدقات وقع ذلك ملكاً لهم ولم يمتنع بظلم المالك بقية الأصناف بمنع حقهم هذا إذا لم يصرف إليه كل المال بل صرف إليه من المال ما لو صرف إليه بطريق الإيثار والتفضيل مع تعميم الآخرين لجاز له أن يأخذه والتفضيل جائز في العطاء. سوى أبو بكر رضي الله عنه فراجعه عمر رضي الله عنه فقال: إنما فضلهم عند الله وإنما الدنيا بلاغ. وفضل عمر رضي الله عنه في زمانه فأعطى عائشة اثني عشر ألفاً وزينب عشرة آلاف وجويرية ستة آلاف وكذا صفية. وأقطع عمر لعلي خاصة رضي الله عنهما. وأقطع عثمان أيضاً من السواد خمس جنات وآثر عثمان علياً رضي الله عنهما بها فقبل ذلك منه ولم ينكر. وكل ذلك جائز في محل الاجتهاد وهو من المجتهدات التي أقول فيها: إن كل مجتهد مصيب وهي كل مسألة لا نص على عينها ولا على مسألة تقرب منها فتكون في معناها بقياس جلي كهذه المسألة ومسألة حد الشرب فإنهم جلدوا أربعين وثمانين والكل سنة وحق وأن كل واحد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مصيب باتفاق الصحابة رضي الله عنهم إذ المفضول ما رد في زمان عمر شيئاً إلى الفاضل مما قد كان أخذه في زمان أبي بكر ولا الفاضل امتنع من قبول الفضل في زمان عمر واشترك في ذلك كل الصحابة واعتقدوا أن كل واحد من الرأيين حق. فليؤخذ هذا الجنس دستوراً للاختلافات التي يصوب فيها كل مجتهد. فأما كل مسألة شذ عن مجتهد فيها نص أو قياس جلي بغفلة أو سوء رأي وكان في القوة بحيث ينقض حكم المجتهد فلا نقول فيها إن كل واحد مصيب بل المصيب من أصاب النص أو ما في معنى النص. وقد تحصل من مجموع هذا أن من وجد من أهل الخصوص الموصوفين بصفة تتعلق بها مصالح الدين أو الدنيا وأخذ من السلطان خلعة أو إدراراً على التركات أو الجزية لم يصر فاسقاً بمجرد أخذه وإنما يفسق بخدمته لهم ومعاونته إياهم ودخوله عليهم وثنائه وإطرائه لهم إلى غير ذلك من لوازم لا يسلم المال غالباً إلا بها كما سنبينه. وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم اعلم أن ذلك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: وهي شرها أن تدخل عليهم. والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك. والثالثة: وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك. أما الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم فهو مذموم جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار فنقلها لتعرف ذم الشرع له ثم نتعرض لما يحرم منه وما يباح وما يكره على ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم. أما الأخبار: فإنه لما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة قال: " فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم " وذلك لأن من اعتزلهم سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب يعمه معهم إن نزل بهم لتركه المنابذة والمنازعة. وقال صلى الله عليه وسلم: " سيكون من بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ليس مني ولست منه ولم يرد علي الحوض " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: " أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء " وفي الخبر: " خير الأمراء الذين يأتون العلماء وشر العلماء الذين يأتون الأمراء " وفي الخبر: " العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا لك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم " رواه أنس رضي الله عنه. وأما الآثار: فقد قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما هي قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه. وقال أبو ذر لسلمة: يا سلمة. لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك وقال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال: عند الأمير. وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك إذ ما دخلت قط على السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم. وقال عبادة بن الصامت: حب القارئ الناسك الأمراء نفاق وحبه الأغنياء رياء. وقال أبو ذر: من كثر سواد قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له قيل له: ولم قال لأنه يرضيه بسخط من الله. واستعمل عمر بن عبد العزيز رجلاً فقيل: كان عاملاً للحجاج فعزله فقال الرجل: إنما عملت له على شيء يسير فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً. وقال الفضيل: ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً. وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين. وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين. وقال محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن غرفك أن يدعو لك الله ويرحمك أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله تعالى: " لتبيننه للناس ولا تكتموه " واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم ويدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمن أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة " الآية. وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد " وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء " والسلام. فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد ولكن نفصل ذلك تفصيلاً فقهياً نميز فيه المحظور عن المكروه والمباح. فنقول: الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى إما بفعله أو بكسوته وإما بقوله وإما باعتقاده فلا ينفك عن أحد هذه الأمور. أما الفعل: فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دور مغصوبة وتخطيها والدخول فيها بغير إذن الملاك حرام ولا يغرنك قول القائل: إن ذلك مما يتسامح به الناس كتمرة أو فتات خبز فإن ذلك صحيح في غير المغصوب أما المغصوب فلا. لأنه إن قيل: إن كل جلسة خفيفة لا تنقص الملك فهي في محل التسامح وكذلك الاجتياز فيجري هذا في كل واحد فيجري أيضاً في المجموع والغصب إنما تم بفعل الجميع وإنما يتسامح به إذا انفرد إذ لو علم المالك به ربما لم يكرهه فأما إذا كان ذلك طريقاً إلى الاستغراق بالاشتراك فحكم التحريم ينسحب على الكل فلا يجوز أن يؤخذ ملك الرجل طريقاً اعتماداً على أن كل واحد من المارين إنما يخطو خطوة لا تنقص الملك لأن المجموع مفوت للملك وهو ضريبة خفيفة في التعليم تباح ولكن بشرط الانفراد فلو اجتمع جماعة بضربات توجب القتل وجب القصاص على الجميع مع أن كل واحدة من الضربات لو انفردت لكانت لا توجب قصاصاً. فإن فرض كونه الظالم في موضع غير مغصوب كالموات مثلاً فإن كانت تحت خيمة أو مظلة من ماله فهو حرام والدخول إليه غير جائز لأنه انتفاع بالحرام واستظلال به فإن فرض كل ذلك حلالاً فلا يعصى بالدخول من حيث إنه دخول ولا بقوله: السلام عليكم ولكن إن سجد أو ركع أو مثل قائماً في سلامه وخدمته كان مكرماً للظالم بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه والتواضع للظالم معصية. بل من التواضع لغني ليس يظالم لأجل غناه. لا لمعنى آخر اقتضى التواضع. نقص ثلثا دينه فكيف إذا تواضع للظالم فلا يباح إلا مجرد السلام. فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فهو معصية إلا عند الخوف أو لإمام عادل أو لعالم أو لمن يستحق ذلك بأمر ديني. قبل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يد علي كرم الله وجهه لما أن لقيه بالشام فلم ينكر عليه. وقد بالغ بعض السلف حتى امتنع عن رد جوابهم في السلام والإعراض عنهم استحقاراً لهم وعد ذلك من محاسن القربات. فأما السكوت عن رد الجواب ففيه نظر لأن ذلك واجب فلا ينبغي أن يسقط بالظلم. فإن ترك الداخل جميع ذلك واقتصر على السلام فلا يخلو من الجلوس على بساطهم وإذا كان أغلب أموالهم حراماً فلا يجوز الجلوس على فرشهم هذا من حيث الفعل. فأما السكوت: فهو أن سيرى في مجلسهم من الفرش الحرير وأواني الفضة والحرير الملبوس عليهم وعلى غلمانهم ما هو حرام. وكل من رأى سيئة وسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة. بل يسمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء والسكوت على جميع ذلك حرام. بل يراهم لابسين الثياب الحرام وآكلين الطعام الحرام وجميع ما في أيديهم حرام والسكوت على ذلك غير جائز. فيجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه إن لم يقدر بفعله. فإن قلت: إنه يخاف على نفسه فهو معذور في السكوت فهذا حق ولكنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر فإنه لو لم يدخل ولم يشاهد لم يتوجه عليه الخطاب بالحسبة حتى يسقط عنه بالعذر. وعند هذا أقول من علم فساداً في موضع وعلم أنه لا يقدر على إزالته فلا يجوز له أن يحضر ليجري ذلك بين يديه وهو يشاهده ويسكت بل ينبغي أن يحترز عن مشاهدته. وأما القول: فهو أن يدعو للظالم أو يثني عليه أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله أو بتحريك رأسه أو باستبشار في وجهه أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه والحرص على طول عمره وبقائه فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام. أما الدعاء له: فلا يحل إلا أن يقول: أصلحك الله أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته أو ما يجري هذا المجرى. فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز. قال صلى الله عليه وسلم: " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن عصى الله في أرضه " فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فسيذكر ما ليس فيه فيكون به كاذباً ومنافقاً ومكرماً لظالم وهذه ثلاث معاص. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق " وفي خبر آخر: " من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام " فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول والتزكية والثناء على ما يعمل: كان عاصياً بالتصديق وبالإعانة فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والمذمة والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه. والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة. ولقد سئل سفيان الثوري رضي الله عنه عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال: لا دعه حتى يموت فإن ذلك إعانة له. وقال غيره: يسقى إلى أن تثوب إليه نفسه ثم يعرض عنه. فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب والشوق إلى لقائه وطول بقائه: فإن كان كاذباً عصى معصية الكذب والنفاق وإن كان صادقاً عصى بحبه بقاء الظالم وحقه أن يبغضه في الله ويمقته.
فالبغض في الله واجب ومحب المعصية والراضي بها عاص. ومن أحب ظالماً فإن أحبه لظلمه فهو عاص لمحبته وإن احبه لسبب آخر فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه وكان الواجب عليه أن يبغضه. وإن اجتمع في شخص خير وشر وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر. وسيأتي في كتاب الإخوة والمتحابين في الله الجمع بين البغض والحب. فإن سلم من ذلك كله وهيهات فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعم الله عليه ويكون مقتحماً نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق " وهذا مع ما فيه ن اقتداء غيره به في الدخول ومن تكثيره سواد الظلمة بنفسه وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات. دعي سعيد بن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين فقال: ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر فقال: لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس فجلد مائة ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين: أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام وعلم أنه لو امتنع أو ذي أو فسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية. والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم الدخول. الحالة الثانية: أن يدخل عليك السلطان الظالم زائر فجواب السلام لا بد منه. وأما القيام والإكرام له فلا يحرم مقابلة له على إكرامه. فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للإحماد كما أنه بالظلم مستحق للإبعاد. فالإكرام بالإكرام والجواب بالسلام. ولكن الأولى أن لا يقوم إن كان معه في خلوة ليظهر له بذلك عز الدين وحقارة الظلم ويظهر غضبه للدين وإعراضه عمن أعرض عن الله فأعرض الله تعالى عنه. وإن كان الداخل عليه في جمع فمراعاة حشمة أرباب الولايات فيما بين الرعايا مهم فلا بأس بالقيام على هذه النية. وإن علم أن لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه فترك الإكرام بالقيام أولى. ثم يجب عليه بعد أن وقع اللقاء أن ينصحه فإن كان يقارف ما لا يعرف تحريمه وهو يتوقع أن يتركه إذا عرف فليعرفه فذلك واجب. وأما ذكر تحريم ما يعلم تحريمه من السرف والظلم فلا فائدة فيه بل عليه أن يخوفه فيما يرتكبه من المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر فيه. وعليه أن يرشده إلى طريق المصلحة إن كان يعرف طريقاً على وفق الشرع بحيث يحصل بها غرض الظالم من غير معصية ليصده بذلك عن الوصول إلى غرضه بالظلم. فإذاً يجب عليه التعريف في محل جهله والتخويف فيما هو مستجرئ عليه والإرشاد إلى ما هو غافل عنه مما يغنيه عن الظلم فهذه ثلاثة أمور تلزمه إذا توقع للكلام فيه أثراً وذلك أيضاً لازم عاى كل من اتفق له دخول عل السلطان بعذر أو بغير عذر. وعن محمد بن صالح قال: كنت عند حماد بن سلمة وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ غيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فإذا هو محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له: ما لي إذا رأيتك امتلأت منك رعباً قال حماد: لأنه قال عليه السلام " إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء " ثم عرض عليه أربعين ألف درهم وقال: تأخذها وتستعين بها قال: ارددها على من ظلمته بها قال: والله ما أعطيتك إلا مما ورثته قال: لا حاجة لي بها قال: فتأخذها فتقسمها قال لعلي إن عدلت في قسمتها أخاف أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم الحالة الثالثة: أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب إذ لا سلامة إلا فيه فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ولا يتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم وذلك إذا خطر بباله أمرهم وإن غفل عنهم فهو الأحسن. وإذا خطر بباله تنعمهم فليذكر ما قاله حاتم الأصم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد فأما أمس فلا يجدون لذته وإني وإياهم في غد لعلى وجل وإنما هو اليوم وما عسى أن يكون في اليوم وما قاله أبو الدرداء إذ قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب ويلبسون ونلبس ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر معهم إليها وعليهم حسابها ونحن منها براء. وكل من أحاط علمه بظلم ظالم ومعصية عاص فينبغي أن يحط ذلك من درجته في قلبه. فهذا واجب عليه لأن من صدر منه ما يكره نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة والمعصية ينبغي أن تكره فإنه إما أن يغفل عنها أو يرضى بها أو يكره ولا غفلة مع العلم ولا وجه للرضا فلا بد من الكراهة فليكن جناية كل أحد على حق الله كجنايته على حقك فإن قلت: الكراهة لا تدخل تحت الاختيار فكيف تجب قلنا: ليس كذلك فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له فإن من لا يكره معصية الله لا يحب الله وإنما لا يحب الله من لا يعرفه والمعرفة واجبة والمحبة لله واجبة. وإذا أحبه كره ما كرهه واحب فإن قلت: فقد كان العلماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول: نعم تعلم الدخول منهم ثم ادخل كما حكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال: من التابعين فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ولكن قال: السلام عليك يا هشام ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك فقال له: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت قال: وما الذي صنعت فازداد غضباً وغيظاً قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت: كيف يا هشام قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقولك لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى وكنى أعداءه فقال: " تبت يدا أبي لهب ". وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام. فقال له هشام: عظني فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. ثم قام وهرب. وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال لي: ارفع إلينا حاجتك فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت قال: بضعة عشر درهماً وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها وخرج فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم. ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك ابن مروان فقال له: تكلم فقال له: إن الناس لا ينجون في القيامة من غصصها ومراراتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه فبكى عبد الملك وقال: لأجعلن هذه الكلمة مثالاً نصب عيني ما عشت. ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عامر أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عنها أبو ذر. وكان له صديقاً. فعاتبه فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنا لرجل إذا ولي ولاية تباعد الله عنه " ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال: أيها الأمير قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني! ومن اعز ممن اعتز بي أيها الراعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاماً تتقعقع فقال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك. قال: لا قال: قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا. وكان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان بن عبد الملك فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة الرحل فقال له عمر: هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه ثم نظر سليمان إلى الناس فقال: ما أكثر الناس فقال عمر: خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له سليمان: ابتلاك الله بهم. وحكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " قال سليمان: فأين رحمة الله قال: قريب من المحسنين ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم قال: أهل البر والتقوى قال: فأي الأعمال أفضل قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال: فأي الكلام أسمع قال: قول الحق عند من تخاف وترجو قال: فأي المؤمنين أكيس قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها قال: فأي المؤمنين أخسر قال: رجل خطا في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه قال: أو تعفيني قال: لا بد فإنها نصيحة تسديها إلي قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه. قال: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد قال: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه فقال سليمان: ومن يقدر على ذلك فقال: من يطلب الجنة ويخاف من النار. فقال سليمان: ادع لي. فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى فقال سليمان: أوصني فقال: أوصيك وأوجز عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن فلعل تلك الساعة قريبة. ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: تكلم يا أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته فقال: يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك. وحكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال: اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً ومن الآخرة إلا قرباً وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علماً لا تجوزه فما أسرع ما تبلغ العلم وما أوشك ما يلحق بك الطالب وإنا وما نحن فيه زائل وفي الذي نحن إليه صائرون باق إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فهكذا كان دخول أهل العلم على السلاطين أعني علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم عل الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم. وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم. وفي هذا غروران يغتر بهما الحمقى: أحدهما: أن يظهر أن قصدي في الدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ. وربما يلبسون على انفسهم بذلك وإنما الباعث لهم شهوة خفيفة للشهرة وتحصيل المعرفة عندهم وعلامة الصدق في طلب الإصلاح انه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه في العلم ووقع موقع القبول وظهر به أثر الصلاح فينبغي أن يفرح به ويسكر الله تعالى كفايته هذا المهم كمن وجب عليه أن يعالج مريضاً ضائعاً فقام بمعالجته غيره فإنه يعظم به فرحه. فإن كان يصادف في قلبه ترجيحاً لكلامه على كلام غيره فهو مغرور. الثاني: أن يزعم أني أقصد الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة. وهذا أيضاً مظنة الغرور. ومعياره ما تقدم ذكره.
وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلنرسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل: مسألة: إذا بعث إليك السلطان مالاً لتفرقه على الفقراء فإن كان له مالك معين فلا يحل أخذه وإن لم يكن بل كان حكمه أنه يجب التصدق به على المساكين. كما سبق. فلك أن تأخذه وتتولى التفرقة ولا تعصى بأخذه ولكن من العلماء من امتنع عنه فعند هذا ينظر في الأولى فنقول: الأولى أن تأخذه إن أمنت ثلاث غوائل: الغائلة الأولى: أن يظن السلطان بسبب أخذك أن ماله طيب ولولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه ولا تدخله ضمانك فإن كان ذلك فلا تأخذه فإن ذلك محذور ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك من الجرأة على كسب الحرام. الغائلة الثانية: أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون أنه حلال فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به على جوازه ثم لا يفرقون فهذا أعظم من الأول. فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة فالمقتدي والمشتبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير. وقد حكى وهب بن منبه أن رجلاً أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف فلم يأكل فقيل له في ذلك فقال: إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير فإذا خرجت سالماً وقدأكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون. ودخل وهب بن منبه وطاوس على محمد بن يوسف - أخي الحجاج - وكان عاملاً وكان في غداة باردة في مجلس بارز فقال لغلامه: هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن - أي طاوس - وكان قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه فغضب محمد بن يوسف فقال وهب: كنت غنياً عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال: نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس - ولا يصنع به ما أصنع به - إذن لفعلت.
الغائلة الثالثة: أنه يتحرك قلبك إلى حبه لتخصيصه إياك وإيثاره لك بما أنفذه إليك فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك فإن من أحبته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه. قالت عائشة رضي الله عنها: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها. وقال عليه السلام: " اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي " بين صلى الله عليه وسلم أن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك. وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال: ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق قال: سل أصحابي فقالوا: أخرجه كله فقال: أنشدك الله أقلبك أشد حباً له الآن أم قبل أن أرسل إليك قال: لا بل الآن قال: إنما كنت أخاف هذا. وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره عزله ونكبته وموته وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم. قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما: من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " قيل لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حباً لهم بذلك فلا بأس بالأخذ. وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالاً ويفرقها فقيل له: ألا تخاف أن تحبهم فقال: لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ثم عصى ربه ما أحبه قلبي لأن الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكراً له على تسخيره إياه. وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل. مسألة: إن قال قائل: إذا جاز أخذ ماله وتفرقته فهل يجوز أن يسرق ماله أو تخفى وديعته وتنكر وتفرق على الناس فنقول: ذلك غير جائز لأنه ربما يكون له مالك معين وهو على عزم أن يرده عليه وليس هذا كما لو بعثه إليك فإن العاقل لا يظن به أن يتصدق بمال يعلم مالكه فيدل تسليمه على أنه لا يعرف مالكه فإن كان ممن يشكل عليه مثله فلا يجوز أن يقبل منه المال ما لم يعرف ذلك ثم كيف يسرق ويحتمل أن يكون ملكه قد حصل له بشراء في ذمته فإن اليد دلالة على الملك. فهذا لا سبيل إليه بل لو وجد لقطة وظهر أن صاحبها جندي واحتمل أن تكون له بشراء في الذمة أو غيره وجب الرد عليه. فإذاً لا يجوز سرقة ما لم لا منهم ولا ممن أودع عنده. ولا يجوز إنكار وديعتهم ويجب الحد على سارق مالهم إلا إذا ادعى السارق أنه ليس ملكاً لهم فعند ذلك يسقط الحد بالدعوى. مسألة: المعاملة معهم حرام لأن أكثر مالهم حرام فما يؤخذ عوضاً فهو حرام فإن أدى الثمن من موضع يعلم حله فيبقى النظر فيما سلم إليهم فإن علم أنهم يعصون الله به كبيع الديباج منهم وهو يعلم أنهم يلبسونه فذلك حرام كبيع العنب من الخمار وفي معناه بيع الفرس منهم لا سيما في وقت ركوبهم إلى قتال المسلمين أو جباية أموالهم فإن ذلك إعانة لهم بفرسه وهي محظورة. فأما بيع الدراهم والدنانير منهم وما يجري مجراها مما لا يعصى في عينه بل يتوصل بها فهو مكروه لما فيه من إعانتهم على الظلم لنهم يستعينون على ظلمهم بالأموال والدواب وسائر الأسباب وهذه الكراهة جارية في الإهداء إليهم وفي العمل لهم من غير أجرة حتى في تعليمهم وتعليم أولادهم الكناية والترسل والحساب وأما تعليم القرآن فلا يكره إلا من حيث أخذ الأجرة فإن ذلك حرام إلا من وجه يعلم حله ولو انتصب وكيلاً لهم يشتري لهم في الأسواق من غير جعل أو أجرة فهو مكروه من حيث الإعانة وإن اشترى لهم ما يعلم أنهم يقصدون به المعصية كالغلام والديباج للفرش واللبس والفرس للركوب إلى الظلم والقتل فذلك حرام. فمهما ظهر قصد المعصية بالمبتاع حصل التحريم ومهما لم يظهر واحتمل بحكم الحال ودلالتها عليه حصلت الكراهة. مسألة: الأسواق التي بنوها بالمال الحرام تحرم التجارة فيها ولا يجوز سكناها فإن سكنها تاجر واكتسب بطريق شرعي لم يحرم كسبه وكان عاصياً بسكناه وللناس أن يشتروا منهم ولكن لو وجدوا سوقاً أخرى فالأولى الشراء منها فإن ذلك إعانة لسكناهم وتكثيراً لكراء حوانيتهم وكذلك معاملة السوق التي لا خراج لهم عليها أحب من معاملة سوق لهم عليها خراج وقد بالغ القوم حتى تحرزوا من معاملة الفلاحين وأصحاب الأراضي التي لهم عليها الخراج فإنهم ربما يصرفون ما يأخذون إلى الخراج فيحصل به الإعانة وهذا غلو في الدين وحرج على المسلمين فإن الخراج قد عم الأراضي ولا معنى للمنع منه ولو جاز هذا لحرم على المالك زراعة الأرض حتى لا يطلب خراجها. وذلك مما يطول ويتداعى إلى حسم باب المعاش. مسألة: معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم بل أشد. أما القضاة فلأنهم يأخذون من أموالهم الحرام الصريح ويكثرون جمعهم ويغرون الخلق بزيهم فإنهم على زي العلماء ويختلطون بهم ويأخذون من أموالهم والطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بذوي الجاه والحشمة. فهم سبب انقياد الخلق إليهم. وأما الخدم والحشم فأكثر أموالهم من الغضب الصريح ولا يقع في أيديهم مال المصلحة وميراث وجزية ولا وجه حلال حتى تضعف الشبهة باختلاط الحلال بمالهم. قال طاوس: لا أشهد عندهم وإن تحققت لأني أخاف تعديهم على من شهدت عليه. وبالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها ". وإنما ذكر القراء لأنهم كانوا هم العلماء وإنما كان علمهم بالقرآن ومعانيه المفهومة بالسنة. وما وراء ذلك من العلوم فهي محدثة بعدهم. وقد قال سفيان: لا تخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض. وقد صدق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة حتى العاصر والمعتصر وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ". وكذا رواه جابر وعمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن سيرين: لا تحمل للسلطان كتاباً حتى تعلم ما فيه وامتنع سفيان رحمه الله من مناولة الخليفة في زمانه دواة بين يديه وقال: حتى أعلم ما تكتب بها فكل من حواليهم من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم يجب بغضهم في الله جميعاً. وروي عن عثمان بن زائدة أنه سأله رجل من الجند وقال: أين الطريق فسكت وأظهر الصمم وخاف أن يكون متوجهاً إلى ظلم فيكون هو بإرشاده إلى الطريق معيناً. وهذه المبالغة لم تنقل عن السلف مع الفساق من التجار والحاكة والحجامين وأهل الحمامات والصاغة والصباغين وأرباب الحرف مع غلبة الكذب والفسق عليهم بل مع الكفار من أهل الذمة وإنما هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين والمواظبين على إيذاء المسلمين الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة وشعائرها. وهذا لأن المعصية تنقسم إلى لازمة ومتعدية والفسق لازم لا يتعدى وكذا الكفر وهو جناية على حق الله تعالى وحسابه على الله وأما معصية الولاة بالظلم وهو متعد فإنما يغلظ أمرهم لذلك وبقدر عموم الظلم وعموم التعدي يزدادون عند الله مقتاً فيجب أن يزداد منهم اجتناباً ومن معاملتهم احترازاً فقد قال صلى الله عليه وسلمك " يقال للشرطي دع سوطك وادخل النار " وقال صلى الله عليه وسلم: " من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر " فهذا حكمهم ومن عرف بذلك منهم فقد عرف ومن لم يعرف فعلامته القباء وطول الشوارب وسائر الهيئات المشهورة. فمن رئي على تلك الهيئة تعين اجتنابه ولا يكون ذلك من سوء الظن لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم ومساواة الزي تدل على مساواة القلب ولا يتجانن إلا مجنون ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق نعم الفاسق قد يلتبس فيستبه بأهل الصلاح فأما الصلح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد لأن تكثير لسوادهم وإنما نزل قوله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال: ما بال الأخيار قال: إنهم لا يغضبون لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم. وبهذا يتبين أن بعض الظلمة والغضب لله عليهم واجب وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لعن علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معاشهم ". مسألة: المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر. أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه معدلاً تأكد الورع. وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلاً لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكاً كان حكمها أن ترصد للخيرات وهذا خير فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقل من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليه أصلاً إلا لضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه. وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك معين فلا يجوز دخوله أصلاً ولا للجمعة بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو خلف الإمام وليقف خارج المسجد فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض وتنعقد في حق الاقتداء فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب. وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به لأنه يحتمل أن يكون من الملك الذي بناه ولو على بعد وإن لم يكن له ملك معين فهو لمصالح المسلمين ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد أعني في الورع قيل لأحمد بن حنبل: ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاة في جماعة ة نحن بالعسكر فقال: حجتي أن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأن أخاف أن أفتن أيضاً. وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به في الصلاة وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه وأما البواري التي فرشوها فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها وإلا فبعد أن أرصدت لمصلحة عامة جاز افتراشها ولكن الورع العدول عنها فإنها محل شبهة. وأما السقاية فحكمها ما ذكرناه وليس من الورع الوضوء والشرب منها والدخول إليها إلا إذا كان يخاف فوات الصلاة فيتوضأ وكذا مصانع طريق مكة. وأما الرباطات والمدارس فإن كانت رقبة الأرض مغصوبة أو الآجر منقولاً من موضع معين يمكن الرد إلى مستحقه فلا رخصة للدخول فيه وإن التبس المالك فقد أرصد لجهة من الخير والورع اجتنابه ولكن لا يلزم الفسق بدخوله. وهذه الأبنية إن أرصدت من خدم السلاطين فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة إلى المصالح ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر. مسألة: الأرض المغصوبة إذا جعلت شارعاً لم يجز أن يتخطى فيه البتة وإن لم يكن له مالك معين جاز والورع العدول إن أمكن فإن كان الشارع مباحاً وفوقه ساباط جاز العبور وجاز الجلوس تحت الساباط على وجه لا يحتاج فيه إلى السقف كما يقف في الشارع لشغل فإذا انتفع بالسقف في دفع حر الشمس أو المطر أو غيره فهو حرام لأن السقف لا يراد إلا لذلك وهكذا حكم من يدخل مسجداً أو أرضاً مباحة سقف أو حوط بغصب فإنه بمجرد التخطي لا يكون منتفعاً بالحيطان والسقف إلا إذا كان له فائدة في الحيطان والسقف لحر أو برد تستر عن بصر أو غيره فذلك حرام لأنه انتفاع بالحرام إذ لم يحرم الجلوس على الغصب لما فيه من المماسة بل للانتفاع والأرض تراد للاستقرار عليها والسقف للاستظلال به فرق بينهما. وقد سئل عنها في الفتاوي مسألة: سئل عن خادم الصوفية يخرج إلى السوق ويجمع طعاماً أو نقداً ويشتري به طعاماً فمن الذي يحل له أن يأكل منه وهل يختص بالصوفية أم لا فقلت: أما الصوفية فلا شبهة في حقهم إذا أكلوه وأما غيرهم فيحل لهم إذا أكلوه برضا الخادم ولكن لا يخلو عن شبهة أما الحل فلأن ما يعطى خادم الصوفية إنما يعطى بسبب الصوفية ولكن هو المعطى لا الصوفية فهو كالرجل المعيل يعطى بسبب عياله لأنه متكفل بهم وما يأخذه يقع ملكاً له للعيال وله أن يطعم غير العيال إذ يبعد أن يقال لم يخرج عن ملك المعطي ولا يتسلط الخادم على الشراء به والتصرف فيه لأن ذلك مصير إلى أن المعاطاة لا تكفي وهو ضعيف ثم لا صائر إليه الصدقات والهدايا ويبعد أن يقال زال الملك إلى الصوفية الحاضرين الذين هم وقت سؤاله في الخانقاه إذ لا خلاف أن له ن يطعم منه من يقدم بعدهم ولو ماتوا كلهم أو واحد منهم لا يجب صرف نصيبه إلى وارثه ولا يمكن أن يقال إنه وقع لجهة التصرف ولا يتعين له مستحق لأن إزالة الملك إلى الجهة لا توجب تسليط الآحاد على التصرف فإن الداخلين فيه لا ينحصرون بل يدخل فيه من يولد إلى يوم القيامة وإنما يتصرف فيه الولاة والخادم لا يجوز له أن ينتصب نائباً عن الجهة فلا وجه إلا أن يقال هو ملكه وإنما يطعم الصوفية بوفاء شرط التصوف والمروءة فإن منعهم عنه منعوه عن أن يظهر نفسه في معرض التكفل بهم حتى ينقطع وقفه لما ينقطع عمن مات عياله. مسألة: سئل عن مال أوصى به للصوفية فمن الذي يجوز أن يصرف إليه فقلت: التصوف أمر باطن لا يطلع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكراً عندهم فهو داخل في غمارهم. والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات الصلاح والفقر وزي الصوفية وأن لا يكون مشتغلاً بحرفة وأن يكون مخالطاً لهم بطريق المساكنة في الخانقاه. ثم بعض هذا الصفات مما يوجب زوالها زوال الاسم وبعضها ينجبر بالبعض فالفسق يمنع هذا الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة فالذي يظهر فسقه وإن كان على زيهم لا يستحق ما أوصى به للصوفية ولسنا نعتبر فيه الصغائر. وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرة كل هؤلاء لا يستحقون ما أوصى به الصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتساب وحرفة فذلك لا يمنع الاستحقاق وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات وأما القدرة على الحرف من غير مباشرة لا تمنع وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم التصوف إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر إذ لا يتناقض أن يقال صوفي مقرئ وصوفي واعظ وصوفي عالم أو مدرس ويتناقض أن يقال صوفي دهقان وصوفي تاجر وصوفي عامل وأما الفقر فإن زال بغنى مفرط ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية وإن كان له مال ولا يفي دخله بخرجه لم يبطل حقه وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة وإن لم يكن خرج وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات. وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي فإن لم يكن على زيهم ووجد فيه بقية الصفات فلا يستحق إلا إذا كان مساكناً لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية. فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر. والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه فإن كان خارجاً لم يعد صوفياً وإن كان ساكناً معهم ووجدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم. وأما لبس المرقعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة. وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم. مسألة: ما وقف على رباط الصوفية وسكانه فالأمر فيه أوسع مما أوصى لهم به لأن معنى الوقوف الصرف إلى مصالحهم فلغير الصوفي أن يأكل معهم برضاهم على مائدتهم مرة أو مرتين فإن أمر الأطعمة مبناه على التسامح حتى جاز الانفراد بها في الغنائم المشتركة وللقوال أن يأكل معهم في دعوتهم من ذلك الوقف وكان ذلك من مصالح معايشهم وما أوصى به للصوفية لا يجوز أن يصرف إلى قوال الصوفية بخلاف الوقف وكذلك من أحضروه من العمال والتجار والقضاة والفقهاء ممن لهم غرض في استمالة قلوبهم يحل لهم الأكل برضاهم فإن الواقف لا يقف إلا معتقداً فيه ما جرت به عادات الصوفية فينزل على العرف ولكن ليس هذا على الدوام فلا يجوز لمن ليس صوفياً أن يسكن معهم على الدوام ويأكل وإن رضوا به إذ ليس لهم تغيير شرط الواقف بمشارة غير جنسهم. وأما الفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم فله النزول عليهم وكونه فقيهاً لا ينافي كونه صوفياً والجهل ليس بشرط في التصوف عند من يعرف التصوف ولا يلتفت إلى خرافات بعض الحمقى بقولهم: إن العلم حجاب فإن الجهل هو الحجاب. وقد ذكرنا تأويل هذه الكلمة في كتاب العلم وأن الحجاب هو العلم المذموم دمن المحمود وذكرنا المحمود والمذموم وشرحهما. وأما الفقيه إذا لم يكن على زيهم وأخلاقهم فلهم منعه من النزول عليهم فإن رضوا بنزوله فيحل له الأكل معهم بطريق التبعية فكان عدم الزي تجبره المساكنة ولكن برضا أهل الزي وهذه أمور تشهد لها العادات ومنها أمور متقابلة لا يخفى أطرافها في النفي والإثبات ومتشابه أوساطها فمن احترز في مواضع الاشتباه فقد استبرأ لدينه كما نبهنا عليه في أبواب الشبهات. مسألة: سئل عن الفرق بين الرشوة والهدية مع أن كل واحد منهما يصدر عن الرضا ولا يخلو عن غرض وقد حرمت إحداهما دون الأخرى. فقلت: باذل المال لا يبذله قط إلا لغرض ولكن الغرض إما آجل كالثواب وإما عاجل والعاجل إما مال وإما فعل وإعانة على مقصود معين وإما تقرب إلى قلب المهدي إليه بطلب محبته إما للمحبة في عينها وإما للتوصل بالمحبة إلى غرض وراءها فالأقسام الحاصلة من هذه خمسة: الأول: ما غرضه الثواب في الآخرة وذلك إما أن يكون لكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً في نفسه متديناً. فما علم الآخذ أنه يعطاه لحاجته لا يحل له أخذه إن لم يكن محتاجاً وما علم أنه يعطاه لشرف نسبه لا يحل له أنه كاذب في دعوى النسب وما يعطى لعلمه فلا يحل له أن يأخذه إلا أن يكون في العلم كما يعتقده المعطي فإن كان خيل إليه كمالاً في العلم حتى بعثه بذلك على التقرب ولم يكن كاملاً لم يحل له وما يعطى لدينه وصلاحه لا يحل له أن يأخذه إن كان فاسقاً في الباطن فسقاً لو علمه المعطي ما أعطاه وقلما يكون الصالح بحيث لو انكشف باطنه لبقيت القلوب مائلة إليه وإنما ستر الله الجميل هو الذي يحبب الخلق إلى الخلق. وكان المتورعون يوكلون في الشراء من لا يعرف أنه وكيلهم حتى لا يتسامحوا في المبيع خيفة من أن يكون ذلك أكلاً بالدين فإن ذلك مخطر والتقي خفي لا كالعلم والنسب والفقر فينبغي أن يجتنب الأخذ بالدين ما أمكن. القسم الثاني: ما يقصد به العاجل غرض معين كالفقير يهدي إلى الغني طمعاً في خلعته فهذه هبة بشرط الثواب لا يخفى حكمها وإنما تحل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه وعند وجود شروط العقود. الثالث: أن يكون المراد إعانة بفعل معين كالمحتاج إلى السلطان يهدي إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال فلينظر في ذلك العمل الذي هو الثواب فإن كان حراماً كالسعي في تنجيز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غيره حرم الأخذ وإن كان واجباً كدفع ظلم متعين على كل من يقدر عليهأو شهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه وهي الرشوة التي لا يشك في تحريمها وإن كان مباحاً لا واجباً ولا حراماً وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال مهما وفى بالغرض وهو جار مجرى الجعالة كقوله: أوصل هذه القصة إلى يد فلان أو يد السلطان ولك دينار وكان بحيث يحتاج إلى يعب وعمل متقوم أو قال اقترح على فلان أن يعينني في غرض كذا أو ينعم علي بكذا وافتقر في تنجيز غرضه إلى كلام طويل فذلك جعل كما يأخذه الوكيل بالخصومة بين يدي القاضي فليس بحرام إذا كان لا يسعى في حرام وإن كان مقصوده يحصل بكلمة لا تعب فيها ولكن تلك الكلمة من ذي الجاه أو تلك الفعلة من ذي الجاه يفيد كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان أو كوضعه قصة بين يدي السلطان فقط فهذا حرام لأنه عوض عن الجاه ولم يثبت في الشرع جواز ذلك بل ثبت ما يدل على النهي عنه. كما سيأتي في هدايا الملوك. وإذا كان لا يجوز العوض عن إسقاط الشفعة والرد بالعيب ودخول الأغصان في هواء الملك وجملة من الأغراض مع كونها مقصودة فكيف يؤخذ عن الجاه ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء ينفرد بمعرفته كواحد ينفرد بالعلم بنبت يقلع البواسير أو غيره فلا يذكره إلا بعوض فإن عمله بالتلفظ به غير متقوم كحبة من سمسم فلا يجوز أخذ العوض عليه ولا على علمه إذ ليس ينتقل علمه على غيره وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالماً به ودون هذا: الحاذق في الصناعة كالصيقلي مثلاً الذي يزيل اعوجاج السيف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل ولحذقه بإصابته فقد يزيد بدقة واحدة مال كثير في قيمة السيف والمرآة فهذا لا أرى بأساً بأخذ الأجرة عليه لأن مثل هذه الصناعات يتعب الرجل في تعلمها ليكتسب ويخفف عن نفسه كثرة العمل. الرابع: ما يقصد به المحبة وجلبها من قبل المهدي إليه لا لغرض معين ولكن طلباً للاستئناس وتأكيداً للصحبة وتودداً إلى القلوب فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع. قال صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا " وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضاً محبة غيره لعين المحبة بل لفائدة في محبته ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يبعثه في الحال أو المآل سمي ذلك هدية وحل أخذها. الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا للأنس به من حيث إنه أنس فقط بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها وكان لولا جاهه وحشمته لكان لا يهدي إليه فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب فلأمر فيه أخف وأخذه مكروه فإن فيه مشابهة الرشوة ولكنها هدية في ظاهرها فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلاً وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدي إليه فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية إذ القصد بها في الحال طلب التقرب واكتساب المحبة ولكن الأمر ينحصر في جنسه إذ ما يمكن التوصل إليه بالآيات لا يخفى وآية أنه لا يبغي المحبة أنه لو ولى في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة واختلفوا في كونه حراماً والمعنى فيه متعارضاً فإنه دائر بين الهدية المحضة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاه في غرض معين وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحمدهما تعين الميل إليه وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتل البريء لتوعظ به العامة " وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال: يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها أو تبرع بها لا على قصد أجرة فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئاً في معرض العوض شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. وسئل طاوس عن هدايا السلطان فقال: سحت. وأخذ عمر رضي الله عنه ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال وقال: إنما أعطيتما لمكانكما مني إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية. وأهدت امرأة أبي عبيدة بن الجراح إلى خاتون ملكة الروم خلوقاً فكافأتها بجوهر فأخذه عمر رضي الله عنه فباعه وأعطاها ثمن خلوقها ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين. وقال جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما: هدايا الملوك غلول. ولم رد عمر بن عبد العزيز الهدية قيل له: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية فقال: كان ذلك له هدية وهو لنا رشوة " أي كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته ونحن إنما نعطى الولاية. وأعظم من ذلك كله ما روى أبو حميد الساعدي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث والياً على صدقات الأزد فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بعض ما معه وقال: هذا لكم وهذا لي هدية فقال عليه السلام: " ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً " ثم قال: " مالي أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا لي هدية ألا أجلس في بيت أمه ليهدى له والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله يحمله فلا يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر " ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال: " اللهم هل بلغت ". وإذا ثبتت هذه التشديدات فالقاضي والولي ينبغي أن يقدر نفسه في بيت أمه وأبيه فما بعد العزل وهو في بيت أمه يجوز له أن يأخذه في ولايته وما يعلم أنه إنما يعطاه لولايته فحرام أخذه وما أشكل عليه في هدايا أصدقائه أنهم هل كانوا يعطونه لو كان معزولاً فهو شبهة فليجتنبه.
|