الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
أما المنافسة فسببها حب ما فيه النافسة فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب: العداوة والكبر والتعجب والخوف من فوت المقاصد المحبوبة وحب الرياسة وخبث النفس وبخلها. فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه أو إلى من يحبه. وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه وهو المراد بالتعزز. وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر. وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب. وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها. وإما لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى. ولا بد من شرح هذه الأسباب. السبب الأول: العداوة والبغضاء وهذا أشد أسباب الحسد فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما وإنما غاية التقى أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عند مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم " الآية. وكذلك قال " ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه. السبب الثاني: التعزز وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته مثلاً ولكن لا يرضى بالترفع عليه. السبب الثالث: الكبر وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا فقالوا " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أعظم " أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " كالاستحقار لهم والأنفة منهم. السبب الرابع: التعجب كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا " ما أنتم إلا بشر مثلنا " " وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا " " ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون " فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب وقالوا متعجبين " أبعث الله بشراً رسولاً " وقالوا " لولا أنزل علينا السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له. السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكثر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد. وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم.
السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة هذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته. فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة. وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد سبب واحد منها. وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة وكذلك في محلتين نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما فيثور من التناقض التنافر والتباغض ومنه تثور بقية أسباب الحسد ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم والتاجر يحسد التاجر بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته. لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون وإنما ينازعه فيه بزاز آخر إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بلل البزاز. ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق فلا جرم يكون حسده للجار أكثر. وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع. ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهما. نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين: أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحث معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً لأن المعرفة لا تضيق على العارفين. بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم. نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة: فيكون ذلك سبباً للمحاسدة وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك. والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع في الأرض لم يبق بعده مال يمتلكه غيره والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواننا على سرر متقابلين " فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء أمشاهدة المحبوب في العقبى فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين ولذلك وسم به الشيطان اللعين وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى. فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً. فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض. ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً. فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجل " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم لأن الشوق بعد الذوق ومن لم يذق لم يعرف ومن لم يعرف لم يشتق ومن لم يشتق لم يطلب ومن لم يطلب لم يدرك ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين " ومن يعش اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم. وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب وتمحوها كما يمحو الليل النهار. وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم فلا تزال تتعذب بكل نعمة تتراها وتتألم بكل بلية تنصرف عليهم فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه. فلا حيلة في دفعه بل كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب. ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه: فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغيير فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها. ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي. وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان. قال الله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم " إذ ما يريد الحسود لا يكون. نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها. وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكره مساويه فهذه هدايا تهديها إليه أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.
وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً. ولذلك قيل: لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا فيك الذي يكمد لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحسد ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق شقياً في الحال والمآل ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك. وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المرء مع من أحب وقام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة فقال " ما أعددت لها " قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم " أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ. إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى: قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم حتى عد أشياء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً فإن لم تسطع أن تكون متعلماً فأحبهم فإن لم تستطع فلا فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث " أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه أي من يكف عنه الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهماً فيرجع إلى عينه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها فيزداد غيظه فيعود على رأسحه فيشجه وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه. وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة. والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه وقلما يشمت شامت بمساءة غلا ويبتلى بمثلها حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما تمنيت لعثمان شيئاً إلى نزل بي حتى لو تمنيت له القتل لقتلت. فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه لحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة. فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه وعلم أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه. وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصبر ما تكلفه أولاً: طبعاً آخر ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة - تكلفاً كانت أو طبعاً - تكسر سورة العداوة من الجانبي وتقل مرغوبها وتعود القلب التآلف والتحاب وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض. فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينقل حلاوة الشفاء وإنما تهون مرارة هذا الدواء أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه. وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل وعند ذلك يريد ما لا يكون إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني - وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى - فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه ويغمه ذلك لا محالة وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ولكن عن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرهك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل قال الله تعالى " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " وقال عز وجل " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء " وقال " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة بحب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقالة الميل من جهة الطبع فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقاً بحيث الله تعالى مثل السكران الواله فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعال الله ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته - أعني الشطيان - فإنه ينازع بالوسوسة. فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده. وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله مهن مخرج " فمخرجه من الحسد أن لا يبغي والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة الدعو وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال. فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة. وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك وتكره حبك لذلك ميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه. الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك فهذا هو الحسد المحظور قطعاً. الثالث: وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه وهذا في محل الخلاف. والظاهر أنه لا يخلوا عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل. وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها. وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها إن أحسنت ساعة أساءت سنة. وإن أساءت مرة جعلتها سنة فدوائر إقبالها على التقارب دائرة وتجارة بنيها خاسرة بائرة وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة. فكل مغرور بها إلى الذل مصيره. وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره. شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها ومن خدمها فاتته ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات سلامتها تعقب السقم وشبابها يسوق إلى الهرم ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم فهي خداعة مكارة طيارة فرارة لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها وشوشت عليهم مناظم أسبابها وكشفت لهم عن مكنون عجائبها فأذاقتهم قواتل سمامها ورشقتهم بصوائب سهامها. بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام. ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طعن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد إن ملكت واحداً منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. تمنى أصحابها سروراً وتعدهم غروراً حتى يأملون كثيراً ويبنون قصورا. فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا. وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا. والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله المرسل إلى العالمين بشيراً ونذيرا وسراجاً منيرا. وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد: فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله وعدوة لأعداء الله. أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله. ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها. وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل: فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعداء الله: فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها. وعولوا عليها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد. ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد. فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون. بل يقال لهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ". وإذا عظمت غوائل الدنيا وشرورها فلا بد أولاً من معرفة حقيقة الدنيا وما هي وما الحكمة في خلقها مع عداوتها وما مدخل غرورها وشرورها فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ويوشك أن يقع فيه. ونحن نذكر ذم الدنيا وأمثلتها وحقيقتها وتفصيل معانيها وأصناف الأشغال المتعلقة بها ووجه الحاجة إلى أصولها وسبب انصراف الخلق عن الله التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى. وهو المعين على ما يرتضيه. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك فلا حاجة إلا الاستشهاد بآيات لقرآن لظهورها وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر شاة ميتة فقال " أترون هذه الشاة هينة على أهلها " قالوا: من هوانها ألقوها. قال " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء وقال صلى الله عليه وسلم " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحب دنياه أضر بآخرته إلا ما كان لله منها وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حب الدنيا رأس كل خطيئة وقال زيد بن أرقم: كما مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا وما سكت: ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال: ثم مسح عينيه فقالوا: يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال " هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها: إليك عني ثم رجعت فقالت: إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك وقال صلى الله عليه وسلم " يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال " هلموا إلى الدنيا وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال: هذه الدنيا وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن الأجسام التي ترى بها ستصير عظاماً بالية. وقال صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ومهدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب وقال عيسى عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا رباً فتخذكم عبيداً اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً. وقال أيضاً: بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة. وقال أيضاً: الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. وقال موسى ابن يسار: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله قال: فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً قال: فسمع سليمان وقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطى ابن داودن فإن ما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى. وقال صلى الله عليه وسلم " ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وقال صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادى من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين له وقال صلى الله عليه وسلم " من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبداً وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً وفقراً لا يبلغ غناه أبداً وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها " فقلت: بل يا رسول الله فأخذ بيده وأتى بي وادياً من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام ثم قال " يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً. وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكياً على الدنيا فليبك " قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا ويروى أن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.
وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم إني قذفت في قلوبهم بعضك والصدور عنك وما خلقت خلقاً أهون علي منك كل شأنك صغير وإلى الفناء يصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد وإن بخل بك صاحبك وشح عليك طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لم ينظر غليها وتقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيباً فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة فلذلك نهيا عن أكلها قال فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: قل له أي شيء تريد قال آدم: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقيل للملك: قل له في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك اهبط إلى الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه " المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار وقال عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. قيل لعيسى عليه السلام: لو اتخذت بيتاً يكنك: قال: يكفينا خلقان من كان قبلها. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم " احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت وعن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فقال " هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً: ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد في الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية: ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبة إلا باتباع الهوى إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوماً فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا ولآمرن منادياً ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم. وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها وتغره ويأمنها ويثق بها وتخذله وويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غداً بذنبه وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بة الجراح فجاء بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال " أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء " قالوا: أجل يا رسول الله قال " فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكنم وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض " فقيل ما بركات الأرض قال " زهرة الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم " لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا فنهى عن ذكرها فضلاً عن إصابة عينها. وقال عمار بن سعيد: مر عيسى عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال: يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا: يا روح الله وددنا أن لو علمنا خبرهم. فسأل الله تعالى فأوحى إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله! فقال: ما حالكم وما قصتكم قال: بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية قال: وكيف ذاك قال: بحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي قال: وكيف كان حبكم للدنيا قال: حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها وإذا أدبرت حزنا وبكينا عليها قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال: فكيف أجبتني أنت من بينهم قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجوا منها أم أكبكب فيها فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. وقال أنس: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم " إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلى وضعه وقال عيسى عليه السلام: من الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً. وقيل لعيسى عليه السلام: علمنا واحداً يحبنا الله عليه قال: ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى. وقال أبو الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء - من قبل نفسه - لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم. فإن قلتم: حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم! فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فائتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم! والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أموركم ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم إني لأرى الله قد تبرأ منكم يلقى بعضكم بعضاً بالسرور وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حياً لم يصابركم فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً وبالله أستعين على نفسي وعليكم. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. وفي معناه قيل: أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا وما أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال عيسى عليه السلام: يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم " لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشد منها. ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي فقال موسى: يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال: يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموعه عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم أغفر له وهو يحب الدنيا. الآثار: قال علي رضي الله عنه: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً أولها: من عرف الله وأطاعه وعرف الشيطان فعصاه وعرف الحق فاتبعه وعرف الباطل فاتقاه وعرف الدنيا فرفضها وعرف الآخرة فطلبها. وقال الحسن: رحمالله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً. وقال أيضاً رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه في دنياك فألقها في نحره. وقال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل وحشوها الإيمان بالله تعالى وشراعها التوكل على الله عز وجل لعلك تنجو وما أراك ناجياً. وقال الفضيل: طالت فكرتي في هذه الآية " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً حرزاً " وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وسيكون له أهل بعدك وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم فلا تهلك في أكله وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر قال: يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية يبعد الأمنية: ومن يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها إذا أدبرت كانت المرة حسرة وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها وتذهب الدنيا ولا أكون فيها فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو بلية أو منية قاضية. وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحد ما يستحق لكنها إما أن تزيد وإما أن تنقص. وقال سفيان: أما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. وقال أبو سليمان الداراني: من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. وليس لهذا غاية. وقال رجل لأبي حازم: أشكو إليك حبالدنيا وليست لي بدار فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه. ولا يضرك حب الدنيا. وإنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لأنعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها. وقال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجيء في طلبه فيأخذك. وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى. فكيف وقد اخترنا خزفاً يفني على ذهب يبقى وقال أبو حازم: إياكم والدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظماً الدنيا فيقال: هذا عظم ما حقره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة. وفي ذلك قيل: ومال المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع وزار رابعة أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها. ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت فقال: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فطوبى لعبد آثر الله ربه وجاد بدنياه لما يتوقع وقيل أيضاً في ذلك: أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سروراً وأنعما كبان بنى بنيانه فأقامه فلما استوى ما قد بناه تهدما وقيل أيضاً في ذلك: هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى انتقال وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً. وقال مطرف ابن الشخير: لا تنظر إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم. وقال ابن عباس: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع. وقال بعضهم: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب. وفي ذلك قيل: يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غدارة قريبة العرس من المأتم وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها. وفي ذلك قيل: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وقيل أيضاً: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا أفنى القرون التي كانت منعمة كر الجديدين إقبالاً وإدبارا يا من يعانق دنيا لا بقاء لها يمسي ويصبح في دنياه سفارا هلا تركت من الدنيا معانقة حتى تعانق في الفردوس أبكارا إن كنت بغى جنان الخلد تسكنها فينبغي لك أن لا تأمن النارا وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أتت إبليس جنوده فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة قال: يحبون الدنيا قالوا نعم قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه وإنفاقه في غير حقه وإمساكه عن حقه والشر كله من هذا نبع. وقال رجل لعلي كرم الله وجهه: يا أمير المؤمن صف لنا الدنيا قال: وما أصف لك من دار من صح فيها سقم ومن أمن فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها افتتن في حلالها الحساب وفي حرامها العقاب ومتشابهها العتاب. وقيل له ذلك مرة أخرى فقال: أطول أم أقصر فقيل: قصر فقال: حلالها حساب وحرامها عذاب. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. وقال أبو سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة. وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح إذ قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخر من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك. وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال: الدنيا والآخرة ضرتان فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى. وقال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا وقال رجل للحسن: ما تقول في رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق منه ويصل منه أيحسن له أن يتعيش فيه - يعني يتنعم - فقال: لا لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره. وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل فسلم وسأله ثم أتى منزله فلم ير فيه إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر رضي الله عنه: لو اتخذت متاعاً فقال: يا أمير المؤمن إن هذا يبلغنا المقيل. وقال سفيان: خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقلبك. وقال الحسن: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا. وقال وهب: قرأت في بعض الكتب الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهل لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا. وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها. وقال سعيد بن مسعود: إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته وهو به راض فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر. وقال عمرو بن العاص على المنبر: والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيه منكم والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له وقال الحسن بعد أن تلا قولى تعالى " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " من قال ذا قاله من خلقها ومن هو أعلم بها إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضاً: مسكين ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: سلام عليك أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات. فأجابه عمر: سلام عليك كأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل. وقال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد. وقال بعضهم: عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح وعجباً لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك وعجباً رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن لها وعجباً لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب! وقدم على معاوية رضي الله عن رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها فقال: سنيات بلاء وسنيات رخاء يوم فيوم وليلة فليلة يولد ولد ويهلك هالك فلولا المولود لباد الخلق ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها. فقال له: سل ما شئت قال: عمر مضى فترده أو أجل حضر فتدفعه قال: لا أملك ذلك قال: لا حاجة لي إليك. وقال داود الطائي رحمه الله: يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاء أجلك ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك. وقال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع ولم يدرك ما أمل ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه. وقيل لبعض العباد قد نلت الغنى فقال: إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا. وقال أبو سليمان: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة. وقال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا وقال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة وقال الحسن: أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك فإذا نفد أعاد عليه وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً. وكان بعضهم يقول في دعائه: يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني. وقال محمد بن المنكدر: أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يفطر وقام الليل لا ينام وتصدق بماله وجاهد في سبيل الله واجتنب محارم الله غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال: إن هذا عظم في عينه ما صغره الله وصغر في عينه ما عظمه الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا وقال أبو حازم: اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه. وقال أبو هريرة: الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها. يا رب يا رب لم تبغضني فيقول لها: اسكتي يا لا شيء. وقال عبد الله بن المبارك: حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته فمتى يصل الخير إليه وقال وهب بن منبه: من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقط أخطأ الحكمة ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله ومن غلب عليه هواه فهو الغالب. وقيل لبشر: مات فلان فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة ضيع نفسه قيل له: إنه كان يفعل ويفعل - وذكروا أبواباً من البر - فقال: وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا وقيل لحكيم: الدنيا لمن هي قال: لمن تركها فقيل الآخرة لمن هي قال: لمن طلبها وقال حكيم: الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال الجنيد: كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا وعظ أخاً لهفي الله وخوفه بالله فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة عمرانها إلى الخراب صائر وساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة. فقال دينار في اليقظة فقال: كذبت لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة. وعن إسماعيل بن عياش قال: كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به. وقال كعب: لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وقال أيضاً: الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله فكيف الوقوع فيها. وقال بكر بن عبد الله: من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. وقال بندار: إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان. وقال أيضاً: من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها - يعني الحرص - حتى يصير رماداً ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته. وقال علي كرم الله وجهه: إنما الدنيا ستة أشياء مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم.
قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة قد تزخرف لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلت ومطمئن إليها خذلت فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذلن وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل فهل على الدواء من دليل وهل إلى الطبيب من سبيل فتدعي لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وطمحت جفونك وصدقت ظنونك وتلجلج لسانك وبكى إخوانك وقيل لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان ومنعت من الكلام فلا تنطق وختم على لسانك فلا ينطلق ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك فغسلوك وكفنوك فانقطع عواك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهناً بأعمالك. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيها تهب بينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره وبينا تبكي له إذ أبكت عليه وبنيا هي تبسط كفها بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد فتعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفاً وترضى بكل من كل بدلاً. وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إلى عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها. والغني منها فقرها. لها في كل حين قتيل. تذل من أعزها. وتفقر من جمعها. هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه. فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً. ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وحلت بآماها وسوفت بخطابها. فأصبحت كالعروس المجلية. العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قالية. فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر. ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي الميعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغضته. وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يروح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار في أهلها غار والنافع فيها غدار ضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء فسرورها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى وأدبر ولا يدري ما هو آت فينتظر. أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وابن آدم فيها على خطر إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ومن البلاء على الحذر فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها اذكره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختباراً وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر فقل مرحباً بشعار الصالحين وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس وسراج القمر ودابتي رجلاي وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض أبيت وليس لي شيء وأصبح وليس لي شيء وليس على الأرض أحد أغنى مني. وقال وهب بن منبه: لما بعث الله عز وجل موسى وهرون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين فلو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت ولكني أرغب بكم عن ذلك فأزوي ذلك عنكما وكذلك أفعل بأوليائي إني لأوذهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وإن لأجنبهم ملاذها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر على أجسادهم فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون وضميرهم الذي يستشعرون ونجاتهم التي بها يفوزون ورجاؤهم الذي إياه يأملون ومجدهم الذي به يفخرون وسيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيتم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر له يوم القيامة. وخطب علي كرم الله وجهه يوماً خطبة فقال فيها: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء محفوفة وبالفناء معروفة وبالغدر موصوفة وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور. أحوال مختلفة وتارات منصرفة العيش فها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة. ترميهم بسهامها وتقصيهم بحمامها. وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعماراً وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً. فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاوية وآثارهم عافية. واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة. الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة. فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل محلة متشاغلين. لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى وأصبحوا بعد الحياة أمواتاً وبعد نضارة العيش رفاتاً فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات " كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو عاينتم الأمور وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول " ليجزى الذي أساءوا بما عملوا ويجزى الذي أحسنوا بالحسنى " وقال تعالى " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه " الآية جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابة متبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله إنه حميد مجيد. وقال بعض الحكماء: الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعة بك ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها فقال. الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه وما لم يأت فلا علم لك به والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور. وخطب عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل. قال علي كرم الله وجهه في خطبته: أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم وإن كنتم لا تحبون تركها المبلية أجسامكم وأنتم تريدون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قطعوه وأفضوا إلى علم فكأنهم بلغوه وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه. وقال محمد بن الحسين: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه وأنها عنده حقيرة قليلة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي لبسوا من الثياب ما ستر العورة وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.
|