الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب وهيهات ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان. والعالم يدرك أن المقصود الوسط لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضاً ما يدل على إساءته كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع وغاية الإنسان الاقتداء بهم. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.
ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة وهي محيطة بها لا تقدر على الخروج منها. فلا تزال تهرب حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط فلو ماتت ماتت على الوسط لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة: فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة والملائكة خارجون عن تلك الحلقة ولا مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص فأشبه أحواله بهم البعد وأبعد الموضع عن الأطراف الوسط فصار الوسط مطلوباً في جميع هذه الأحوال المتقابلة. وعنه عبر بقوله صلى الله عليه وسلم " خير الأمور أوساطها وإليه الإشارة بقوله تعالى " وكلوا وشربوا ولا تسرفوا " ومهما لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على العمل مع خفته ولكن هذا بعد اعتدال الطبع. أما في بداية الأمر إذا كانت النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط فالاعتدال لا ينفعها بل لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع كما يبالغ في إيلام الدابة التي ليست مروضة بالجوع والضرب وغيره إلى أن تعتدل فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى الاعتدال ترك تعذيبها وإيلامها. ولأجل هذا السر يأمر الشيخ مريده بما لا يتعاطاه هو في نفسه فيأمره بالجوع وهو لا يجوع ويمنعه الفواكه والشهوات وقد لا يمتنع هو منها لأنه قد فرغ من تأديب نفسه فاستغنى عن التعذيب. ولما كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة كان الأصلح لها الجوع الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال لتنكسر نفسه. والمقصود أن تنكسر حتى تعتدل فترد بعد ذلك الغذاء أيضاً إلى الاعتدال. وإنما يمتنع من ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة: إما صديق وإما مغرور أحمق. أما الصديق المستقيم: فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق. وأما المغرور: فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيراً. وهذا غرور عظيم وهو الأغلب. فإن النفس قلما تتأدب تأدباً كاملاً وكثيراً ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك. والذي يدل على أن تفسير الطعام بمقدار يسير - في وقت مخصوص ونوع مخصوص - ليس مقصوداً في نفسه - وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق غير بالغة رتبة الكمال - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول " هل عندكم من شيء " فإن قالوا نعم أكل وإن قالوا له قال " إني إذن صائم وكان يقدم إليه الشيء فيقول " أما إني قد أردت الصوم " ثم يأكل وخرج صلى الله عليه وسلم يوماً وقال " إني صائم " فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد أهدي إلينا حيس فقال " كنت أردت الصوم ولكن قربيه. ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له: كيف كنت في بدايتك فأخبر بضروب من الرياضات منها: أنه كان يقتات ورق النبق مدة. ومنها: أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا فقال: آكل بلا حد ولا توقيت. وليس المراد بقوله بلا حد ولا توقيت: أني آكل كثيراً بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله. وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل فقيل له: إن أخاك بشراً لا يأكل مثل هذا فقال: إن أخي بشراً قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي فإذا أطعمني أكلت وإذا جوعني صبرت مالي والاعتراض والتمييز ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم وقال: خذ لنا بهذه الدراهم زبداً وعسلاً وخبزاً حوار يا فقيل: يا أبا إسحاق بهذا كله قال ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ودعا إليه نفراً يسيراً فيهم الأوزاعي والثوري فقال له الثوري: يا أبا إسحق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً فقال: ليس في الطعام إسراف إنما الإسراف في اللباس والأثاث. فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليداً يرى هذا من إبراهيم بن أدهم ويسمع عن مالك بن دينار أنه قال ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة. وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس فما فعل فيراه متناقضاً فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ. والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاج أو غبي مغرور. فيقول المحتاط: ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم. والمغرور يقول: ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فما لي وللاعتراض ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول: أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها. اعزلوا عني حسابها وتركها. وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محالة عما يدعوه إليه. فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال. ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة: إنك عارف كامل وما الذي فاتك من المعرفة والكمال بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته. والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة. وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال. ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن فعلاه بالدرة وقال: لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً ويوماً خبزاً ولبناً ويوماً خبزاً وسمناً ويوماً خبزاً وزيتاً ويوماً خبزاً وملحاً ويوماً خبزاً قفاراً. وهذا هو الاعتدال فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار. وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم. إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان هما أعظم من أكل الشهوات إحداهما: أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات فتشتهيها ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذا هو الشرك الخفي سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد فسكت عنه فقيل له: هل تعلم به بأساً قال يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذه آفة عظيمة بل حق العبد إذا ابتلى بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان والكذب مع الإخفاء كذبان فيكون مستحقاً ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين. ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر فكان ستره لكفره كفراً آخر لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره. والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء. بل كمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ويظهر من نفسه الشهوة إسقاطاً لمنزلته من قلوب الخلق. وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عن نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله. فنهاية الزهد: الزهد في الزهد بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين. فإنه جمع بين صدقين كما أن الأول جمع بين كذبين. وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين مرة بشربه ومرة برميه فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. وهذا يضاهي طريق من يعطي جهراً فيأخذ ويرد سراً ليكسر نفسه بالذل جهراً وبالفقر سراً. فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه والصدق فيه. ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان: إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك فاستره إصلاحاً لغيرك فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره. فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات. الآفة الثانية: أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات فقد خالف شهوة ضعيفة وهي شهوة الأكل وأطاع شهوة هي شر منها وهي شهوة الجاه وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام فليأكل فهو أولى له. قال أبو سليمان: إذا قدمت إليك شهوة وقد كنت تاركاً لها فأصب منها شيئاً يسيراً ولا تعط نفسك مناها فنكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت عليها إذ لم تعطها شهوتها. وقال محمد بن جعفر الصادق: إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها وكان ذلك أفضل من منعها وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ولم أنلها منها شيئاً وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية. وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية لأن شهوة الرياء أضر كثيراً من شهوة الطعام والله ولي التوفيق. القول في شهوة الفرج اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين إحداهما: أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد. والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق. الفائدة الثانية: بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها. ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال. وقد قيل في تأويل قوله تعالى " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " معناه شدة الغلبة وعن ابن عباس: في قوله تعالى " ومن شر غاسق إذا وقب " قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل. وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه " اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني وقال عليه السلام " النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال. روي أن موسى عليه السلام كان جالساً في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألواناً فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه ثم أتاه فقال: السلام عليك يا موسى فقال له موسى من أنت فقال: أنا إبليس فقال: لا حياك الله ما جاء بك قال: جئت أسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه قال: فما الذي رأيت عليك قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه وأحذرك ثلاثاً: لا تخل بامرأة لا تحل لك فإن ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به ولا تعاهد الله عهداً إلا وفيت به ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: علم موسى ما يحذر به بني آدم. وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبياً فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء ولا شيء أخوف عندي منهن وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح. وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي. فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب. وأعظم الشهوات شهوة النساء. وهذه الشهوة أيضاً لها إفراط وتفريط واعتدال فالإفراط: ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش. وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين: أحدهما: أن يتناولوا ما يقوى شهواتهم على الاستكثار من الوقاع - كما قد يتناول بعض الناس أودية تقوى المعدة لتعظم شهوة الطعام - وما مثال ذلك إلا كمن ابتلى بسباع ضارية وحيات عادية فتنام عنه في بعض الأوقات فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها فإن فإن قلت فقد روى في غريب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهريسة فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع. والأمر الثاني: أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحيي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعاً لا ليكون خادماً للشهوة ومحتالاً لأجلها وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارع لا هم له. وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر وإلا فإذا استحكم عسر دفعه. فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة. ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله وما أهون منعها بصرف عنانها. ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها. وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر فليكن الاحتياط في بدايات الأمور فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح. فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جداً. وتفريطها: بالعفة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة وهو أيضاً مذموم. وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها. ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح قال صلى الله عليه وسلم " معاشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فالصوم له وجاء. اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك ويستجره إلى الأنس بالزوجة. ومن أنس بغير الله تعالى شغل عن الله ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى فلا تقاس الملائكة بالحدادين. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا وقال: ما رأيت مريداً تزوج فثبت على حاله الأول. وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها فقال: لا آنسني الله بها أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى وقال أيضاً: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم. فكيف يقاس غير رسول الله صلى الله عليه وسلم به وقد كان استغراقه بحب الله تعالى بحيث كان يجد احتراقه فيه إلى حد كان يخشى منه في بعض الأحوال أن يسري ذلك إلى قالبه فيهدمه. ولذلك كان يضرب بيده على فخذ عائشة أحياناً ويقول " كلميني يا عائشة " لتشغله بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه فقد كان طبعه الأنس بالله عز وجل وكان أنسه بالخلق عارضاً رفقاً ببدنه ثم إنه كان لا يطيق الصبر مع الخلق إذا جالسهم فإذا ضاق صدره قال " أرحنا بها يا بلال حتى يعود إلى ما هو قرة عينه فالضعيف إذا لاحظ أحواله في مثل هذه الأمور فهو مغرور لأن الأفهام تقصر عن الوقوف على أسرار أفعاله صلى الله عليه وسلم. فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة هذا إذا لم تغلبه الشهوة فإن غلبته الشهوة فليكسرها بالجوع الطويل والصوم الدائم فإن لم تنقمع الشهوة بذلك وكان بحيث لا يقدر على حفظ العين مثلاً وإن قدر على حفظ الفرج فالنكاح له أولى لتسكن الشهوة وإلا فمهما لم يحفظ عينه لم يحفظ عليه فكره يوتفرق عليه همه وربما وقع في بلية لا يطيقها. وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه. قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة. وقال سعيد بن جبير: إنما جاءت الفتنة لداود عليه السلام من قبل النظرة. ولذلك قال لابنه عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا قال: النظر والتمني. وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله تعالى أعطاه الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه وقال صلى الله عليه وسلم " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال صلى الله عليه وسلم " اتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء وقال تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " الآية وقال عليه السلام " لكل ابن آدم حظ من الزنا فالعينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والفم يزني وزناه القبلة والقلب يهم أو يتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وقالت أم سلمة: استأذن ابن أم مكتوم الأعمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وميمونة جالستان فقال عليه السلام " احتجبا " فقلنا: أوليس قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجيل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة فنظره نظر شهوة فهو حرام وهذا مما يتهاون به الناس ويجرهم ذلك إلى المعاطب وهم لا يشعرون. قال بعض التابعين ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك من غلام أمرد يجلس إليه. وقال سفيان: لو أن رجلاً عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجله يريد الشهوة لكان لواطاً. وعن بعض السلف قال: سيكون في هذه الأمة ثلاثة أصناف لوطيون: صنف ينظرون وصنف يصافحون وصنف يعملون. فإذن آفة النظر إلى الأحداث عظيمة فمهما عجز المريد عن غض بصره وضبط فكره فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع. وقال بعضهم: غلبت على شهوتي في بدء إرادتي بما لم أطق فأكثرت الضجيج إلى الله تعالى فرأيت شخصاً في المنام فقال: مالك فشكوت إليه فقال: تقدم إلي فتقدمت إليه فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي فأصبحت وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة ثم عاودني ذلك فأكثرت الاستغاثة فأتاني شخص في المنام فقال لي: أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك قلت: نعم فقال: مد رقبتك فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي فأصبح وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة ثم عاودني ذلك أو أشد منه فرأيت كأن شخصاً فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول: ويحك كم تسأل الله تعالى رفع ما لا يحب رفعه قال: فتزوجت فانقطع ذلك عني وولد لي. ومهما احتاج المريد إلى النكاح فلا ينبغي أن يترك شرط الإرادة في ابتداء النكاح ودوامه أما في ابتدائه فبالنية الحسنة وفي دوامه بحسن الخلق وسداد السيرة والقيام بالحقوق الواجبة - كما فصلنا جميع ذلك في كتاب آداب النكاح فلا نطول بإعادته - وعلامة صدق إرادته أن ينكح فقيرة متدينة ولا يطلب الغنية. قال بعضهم: من تزوج غنية كان له منها خمس خصال مغالاة الصداق وتسويف الزفاف وفوت الخدمة وكثرة النفقة. وإذا أراد طلاقها لم يقدر خوفاً على ذهاب مالها. والفقيرة بخلاف ذلك. وقال بعضهم: ينبغي أن تكون المرأة دون الرجل بأربع وإلا استحقرته: بالسن والطول والمال والحسب وأن تكون فوقه بأربع: بالجمال والأدب والورع والخلق وعلامة صدق الإرادة في دوام النكاح الخلق. تزوج بعض المريدين بامرأة فلم يزل يخدمها حتى استحيت المرأة وشكت ذلك إلى أبيها وقالت: قد تحيرت في هذا الرجل أنا في منزله منذ سنين ما ذهبت إلى الخلاء قط إلى وحمل الماء قبلي إليه وتزوج بعضهم امرأة ذات جمال فلما قرب زفافها أصابها الجدري فاشتد حزن أهلها لذلك خوفاً من أن يستحقبحها فأراهم الرجل أنه قد أصابه رمد ثم اراهم أن بصره قد ذهب حتى زفت إليه فزال عنهم الحزن فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت ففتح عينيه حين ذلك فقيل له في ذلك فقال تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا فقيل له: قد سبقت إخوانك بهذا الخلق. وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها فقيل له: لم لا تطلقها فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها فإن تزوج المريد فهكذا ينبغي أن يكون وإن قدر على الترك فهو أولى له إذ لم يمكنه الجمع بين فضل النكاح وسلوك الطريق وعلم أن ذلك يشغله عن حاله كما روي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني. فكتبت إليه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك ليقتسموا تراثك فصم الدهر وليكن فطرك الموت. وأما أنا فلو أن الله تعالى خولني أمثال الذي خولك وأضعافه ما سرني أن أشتغل عن الله طرفة عين.
وهذه إشارة إلى أن كل ما يشغل عن الله تعالى فهو نقصان فلينظر المريد إلى حاله وقلبه فإن وجده في العزوبة فهو الأقرب وإن عجز عن ذلك فالنكاح أولى به. ودواء هذه العلة ثلاثة أمور: الجوع وغض البصر والاشتغال بشغل يستولي على القلب. فإن لم تنفع هذه الثلاثة فالنكاح هو الذي يستأصل مادتها فقط. ولهذا كان السلف يبادرون إلى النكاح وإلى تزويج البنات قال سعيد بن المسيب ما أيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء وقال سعيد أيضاً - وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى - ما شيء أخوف عندي من النساء وعن عبد الله بن أبي وداعة قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فتفقدني أياماً فلما أتيته قال أين كنت قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله تعالى ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة فقال: أنا فقلت: وتفعل قال: نعم فحمد الله تعالى وصلى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين - أو قال ثلاثة - قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي فأسرجت وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر - وكان خبزاً وزيتاً - وإذا بابي يقرع فقلت: من هذا قال: سعيد قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب - وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد - قال: فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب فظنت أنه قد بدا له فقلت: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك فقال: لا أنت أحق أن تؤتى قلت: فما تأمر قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك وهذه امرأتك وإذا هي قائمة خلفه في طوله في أخذ بيدها فدفعها في الباب ورده فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاءوني وقالوا: ما شأنك قتل: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها الليلة على غفلة فقالوا: أو سعيد زوجك قلت: نعم قالوا وهي في الدار قلت: نعم فنزلوا إليها وبلغ ذلك أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام قال: فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس فقال: ما حال ذلك الإنسان فقلت: بخير يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو قال: إن رابك منه أمر فدونك والعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب هذه قد خطبها منه عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف. فاستعجال سعيد في الزفاف تلك الليلة يعرفك غائلة الشهوة ووجوب المبادرة في الدين إلى تطفئة نارها بالنكاح رضي الله تعالى عنه ورحمه. اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر. نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب لا سيما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصديقين. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد وقال عليه السلام " سبعة يظلمهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله - وعد منهم " رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها فقال إني أخاف الله رب العالمين وقصة يوسف عليه السلام وامتناعه من زليخا مع القدرة ومع رغبتها معروفة وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك في كتابه العزيز وهو إمام لكل من وفق لمجاهدة الشيطان في هذه الشهوة العظيمة. وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهاً فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه فامتنع عليها وخرج هارباً من منزله وتركها فيه. قال سليمان: فرأيت تلك الليلة في المنام يوسف عليه السلام وكأني أقول له أنت يوسف قال: نعم أنا يوسف الذي هممت وأنت سليمان الذي لم تهم أشار إلى قوله تعالى " ولقد عمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " وعنه أيضاً ما هو أعجب من هذا. وذلك أنه خرج من المدينة حاجاً ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئاً وجلس سليمان في الخيمة وكان من أجمل الناس وجهاً وأورعهم فبصرت به أعرابية من قلة الجبل وانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه - وعليها البرقع والقفازان - فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت أهنئني فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها فقالت: لست أريد هذا إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله فقال: جهزك إبليس ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب فلم يزل يبكي فلما رأت منه ذلك سدلت البرقع على وجهها وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها. وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه فقال ما يبكيك قال: خير ذكرت صبيتي. قال: لا والله إلا أن لك قصة إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية فوضع رفيقه السفرة وجعل يبكي بكاء شديداً فقال سليمان: وأنت ما يبكيك قال: أنا أحق بالبكاء منك لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها فلم يزالا يبكيان فلما انتهى سليمان إلى مكة فسعى وطاف ثم أتى الحجر فاحتبى بثوبه فأخذته عينه فنام وإذا رجل وسيم طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة فقال له سليمان: رحمك الله من أنت قال له: أنا يوسف قال: يوسف الصديق قال: نعم قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعبجا! فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب. وروي عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون حول قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك ففرج عنها ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إن استأجرت أجراء وأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد فإنه ترك الأجر الذي له وذهب فنميت له أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله أتهزأ بي فقلت: لا أستهزئ بك فخذه فاستاقه وأخذه كله ولم يترك منه شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون. فهذا فضل من تمكن من قضاء هذه الشهوة فعف وقريب منه من تمكن من قضاء شهوة العين فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ. والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها قال صلى الله عليه وسلم " لك الأولى وعليك الثانية أي النظرة. وقال العلاء بن زياد. لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان. فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه هذه المعاودة عين الجهل فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وعن تحسر. ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق. فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله المزني: أن قصاباً أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حباً لك منك لي ولكني أخاف الله قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه! فرجع تائباً فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: مالك قال: العطش قال: تعال حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية قال: ما لي من عمل صالح فأدعوا فادع أنت قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: زعمت أن ليس لك عمل صالح وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك لتخبرني بأمرك فأخبره فقال الرسم: إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه. وعن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت فنظرت غليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك فلما كان ذات يوم وقفت له الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت فمضى ولم يكلمها ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتي اسمع مني كلمات أكلمك بها فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدني شيء يعيبها وجملة ما أقول لك إن جوارحي كلها مشغولة بك ف في أمري وأمرك قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم فإذا عادة إلى المعصية مرة أخرى ستره فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل وتصير الجبال كالعهن وتجثوا الأمم لصولة الجبار العظيم وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى " وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " فأين المهرب من هذه الآية ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى ثم بكت بكاء شديداً وقالت: اسأل لك الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك وأوصني بوصية أعمل عليها فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله تعالى " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " قال: فأطرقت وبكت بكاء شديداً أشد من بكائها الأول ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي فيقال له: مما بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى فأنا أستحي منه أن أسترد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى. تم كتاب كسر الشهوتين بحمد الله تعالى وكرمه. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آفات اللسان والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وسلم تسليماً كثيراً.
|