الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً وقد يتعلق به ضرر غيره ورب جهل فيه منفعة ومصلحة فالكذب محصل لذلك الجهل فيكون مأذوناً فيه وربما كان واجباً. قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك فقال: أرأيت فلاناً ما كنت قائلاً ألست تقول: لم أره وما تصدق به. وهذا الكذب واجب. فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً وواجب إن كان المقصود واجباً كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فبكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة. والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها وقالت أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس بكذاب من اصلح بين اثنين فقال خيراً أو نمى خيراً وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين مسلمين ليصح بينهما وروي عن أبي كامل قال: وقع بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت: ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا ثم قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين! فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا أبا كاهل أصلح بين الناس أي ولو بالكذب. وقال عطاء بن يسار: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أكذب على أهلي قال " لا خير في الكذب " قال: أعدها وأقول لها قال " لا جناح عليك. وروي أن ابن أبي عذرة الدؤلي وكان في خلافة عمر رضي الله عنه كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن فطارت له في الناس من ذلك أحدوثة يكرهها فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني قالت: لا تنشدني قال: فإني أنشدك الله قالت: نعم فقال لابن الأرقم: أتسمع ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون إني أظلم النساء وأخلعهن فأسأل ابن الأرقم فسأله فأخبره فأرسل إلى امرأة بن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه فقالت: إني أول من تاب وراجع أمر الله تعالى إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب أفأكذب يا أمير المؤمنين قال: نعم فاكذبي فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فإن أقل البيوت الذي بيني على الحب ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب. وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب يكتب على ابن آدم لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإن الحرب خدعة أو يكون بين الرجلين شحناء فيصلح بينهما أو يحدث امرأته يرضيها وقال ثوبان الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلماً أو دفع عنه ضرراً. وقال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عني النبي صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة. فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره. أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك فيقول: ما زنيت وما سرقت. وقال صلى الله عليه وسلم " من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً وعرضه وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره وأن يصلح بين اثنين وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحد أنها أحب إليه وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييباً لقلبها أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به. ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور. فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرر به وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذوراً حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات وذلك حرام. وقالت أسماء سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل أضارها بذلك فهل على شيء فيه فقال صلى الله عليه وسلم " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وقال صلى الله عليه وسلم " من تطعم بما لا يطعم أو قال لي وليس له أو أعطيت ولم يعط فهو كلابس ثوبي زور يوم القيامة ويدخل في هذا فنوى العالم بما لا يتحققه وروايته الحديث الذي لا يتثبته إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري وهذا حرم ومما يلتحق بالنساء الصبيان فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو عيد أو تخويف كاذب كان ذلك مباحاً. نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذباً ولكن الكذب المباح أيضاً قد يكتب ويحاسب عليه ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كبير فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه وإنما يتعلل ظاهراً بالإصلاح فلهذا يكتب. وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا وذلك غامض جداً والحزم تركه إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان. وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض إذ قال صلى الله عليه وسلم " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وهذا لا يرتكب إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها. وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه وما هو جديد فوقعه أعظم فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلى. والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء. نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين. قد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجال عن الكذب وروى ذلك عن ابن عباس وغيره. وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعويض ولا التصريح جميعاً ولكن التعويض أهون. ومثال التعويض ما روى أن مطرفاً دخل على زياد فاستيطأه فتعلل بمرض وقال: ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله. وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيكون قوله " ما " حرف نفي عند المستمع وعنده الإبهام. وكان معاذ بن جبل عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط قالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه. فبعث عمر معك ضاغطاً وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال: بعثت معك ضاغطاً قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً فقال. أرضها به - ومعنى قوله ضاغطاً يعني رقيباً وأراد به الله تعالى - وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكراً بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكراً فإنه ربما لا يتفق له ذلك. وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذباً. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة كما روى عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلى ثوب فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيراً فقال لي أبي يا بني اتق الكذب وما أشبهه فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريراً لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة فيه. نعم المعاريض تباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة عجوز وقوله للأخرى " الذي في عين زوجك بياض " وللأخرى " نحملك على ولد البعير " وما أشبهه. وأما الكذب الصريح كما فعله النعمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له إنه نعيمان وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب فهو حرام وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه. قال صلى الله عليه وسلم " لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وحتى يجتنب الكذب في مزاحه وأما قوله عليه السلام " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوى بها في النار أبعد من الثريا أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.
ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبت كذا وكذا مرة وقلت لك كذا مائة مرة فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذباً وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال: كل الطعام فيقول: لا أشتهيه وذلك منهي عنه وهو حرام وإن لم يكن فيه غرض صحيح قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس كنت صاحبة عائشة في الليلة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن. فشرب ثم ناوله عائشة قالت: فاستحيت الجارية فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي منه قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال " ناولي صواحبك " فقلت: لا نشتهيه فقال " لا تجمعن جوعاً وكذباً " قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذباً قال " إن الكذب ليكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة وقد كان أهل الورع يحترزون عن لتسامح بمثل هذا الكذب. قال الليث بن سعد: كانت عينا سعد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه فيقال له: لو مسحت عينيك فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه فقالت: كيف أنت يا بني فجلس الربيع وقال: أرضعتيه قالت: لا قال: ما عليك لو قلت يا ابن أخي فصدقت ومن العادة أن يقول: يعلم الله فيما لا يعمله. قال عيسى عليه السلام: إن من عظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام والإثم فيه عظيم إذ قال عليه السلام " إن من أعظم الفرية أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول على ما لم أقل وقال عليه السلام " من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبداً. الآفة الخامسة عشرة الغيبة والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة فقال تعالى " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " وقال عليه السلام " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم وقال أبو برزة: قال عليه السلام " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً وعن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا فإن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مررت ليلة سرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال سليم بن جابر: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت علمني خيراً أنتفع به فقال " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقى وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتابه وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال " يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته وقيل أوحي الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار. وقال أنس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بصوم يوم فقال " لا يفطرن أحد حتى آذن له " فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فائذن لي لأفطر فيأذن له والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحيان أن يأتياك فائذن لهما أن يفطرا! فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ثم عاوده فأعرض عنه ثم عاوده فقال " إنهما لم يصوما وكيف يوم من ظل نهاره يأكل لحم الناس اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستيئا " فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: والذي نفسي بيده لو بقيتا في بوطنهما لأكلتهما النار وفي رواية: أنه لما أعرض عنه جاء بعد ذلك وقال يا رسول الله والله إنهما قد ماتتا أو كادتا أن تموتا فقال صلى الله عليه وسلم " ائتوني بهما " فجاءتا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فقال لإحداهما " قيئي " فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح وقال للأخرى " قيئي " فقاءت كذلك فقال " إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس وقال أنس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه فقال " إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثة زنية يزنيها الرجل وأربى الربا عرض المسلم وقال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يغتاب الناس وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله " فدعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر وقال " أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين - أو ما لم ييبسا -. ولما رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب فمر صلى الله عليه وسلم وهما معه بجيفة فقال " انهشا منها " فقالا: لا رسول الله ننهش جيفة فقال " ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه وكان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال ويرون خلافه عادة المنافقين. وقال أبو هريرة: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة وقيل له كل ميتاً كما أكلته حياً فيأكله فينضج ويكلح وروي مرفوعاً كذلك. وروي أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذلك. فقالا: لقد بقي فيه منه شيء وأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس فحاك في أنفسهما ما قالا فأتيا عطاء فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وأمرهما أن يقضيا الصيام إن كانا صائمين. وعن مجاهد أنه قال في " ويل لكل همزة لمزة " الهمزة: الطعان في الناس واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. وقال قيادة: ذكر لنا عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة وثلث من النميمة وثلث من البول. وقال الحسن: والله للغيبة أسره في دين الرجل المؤمن من الأكله في الجسد. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. وقال ابن عباس: إذا أردت ان تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وكان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تغيب في الناس بعيب هو فيك وحتى تبدأ بصلاح ذلك الغيب فتصلحه من فإذا فعلت ذلك كان شعلك في خاصة نفسك وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أشد بياض أسنانه! كأنه رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. نسأل الله حسن التوفيق وطاعته. اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في حلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته. أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو زبال أو شيء مما يكرهه كيفما كان. وأما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبال عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجراه. وأما أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها أو لا يحسن قسمها أو لا يحرص صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً أو يرى لنفسه الحق على الناس أو أنه كثير الكلام كثير الأكل نئوم ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب. وقال قوم: لا غيبة في الدين لأنه ما ذمه الله تعالى فذكره بالمعاصي وذمه بها يجوز بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال " هي في النار وذكرت عنده امرأة أخرى بأنها بخيلة فقال " فما خيرهم إذن فهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى تعرف الأحكام بالسؤال ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إليه في غير مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. والدليل عليه إجماع الأمة على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه دخل فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وكل هذا وإن كان صادقاً فيه فهو به مغتاب عاص لربه وآكل لحم أخيه بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هل تدرون ما الغيبة قالوا: الله ورسوله أعلم قال " ذكرك أخاك بما يكرهه " قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وقال معاذ بن جبل: ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما أعجزه! فقال صلى الله عليه وسلم " اغتبتم أخاكم " قالوا يا رسول الله قلنا ما فيه قال " إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه وعن حذيفة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم " اغتبتيها وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة الغيبة والبهتان والإفك وكل في كتاب الله عز وجل فالغيبة أن تقول ما فيه والبهتان أن تقول ما ليس فيه والإفك أن تقول ما بلغك وذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته. وذكر ابن سيرين غبراهيم النخعي فوضع يده على عينه ولم يقل الأعور. وقالت عائشة لا يغتابن أحدكم أحداً فإن قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه لطويلة الذيل فقال لي " الفظى الفظى " فلفظت مضغة لحم. اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فما ولت أومأت بيدي أنها قصير فقال عليه السلام " اغتبتيها ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حاكت امرأة قال " ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا. وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره - كما سيأتي بيانه - وأما قوله: قال قوم كذا: فليس ذلك غيبة وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت. ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم أو بعض من رأيناه إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا لم يفهم عينه جاز. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال " ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين. وقولك: بعض من قدم من السفر أو بعض من يدعي العلم إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي غيبة. وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء نسأل الله أن يعصمنا منها وإنما قصده أن يفهم عيب الغي رفيذكره بصيغة الدعاء وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان: ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا وهو قلة الصبر. فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة. ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم. ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا! حتى يصغي إليه ويعلم ما يقول فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه وهو يمثن على الله عز وجل بذكره جهلاً منه وغروراً " وكذلك يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه فيكون كاذباً في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته ولو كان يغتم به لاغتم أيضاً بإظهار ما يكرهه. وكذلك يقول: ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا. ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلى بالخير: وكنت أحسب فيه غير هذا عافانا الله من بلائه فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب. قال صلى الله عليه وسلم " المستمع أحد المغتابين وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلاناً لنئوم ثم إنهما طلبا أدماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلا به الخبز فقال صلى الله عليه وسلم " قد ائتدمتما! " فقالا: ما نعلمه قال " بلى إنكما أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما وكان القائل أحدهما والآخر مستمعاً. وقال للرجلين اللذين قال أحدهما. أقعص الرجل كما يقعص الكلب " انهشا من هذا الجيفة فجمع بينهما فالمستع لا يخرج من إثم الغيبة غلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه وإن قال بلسانه اسكت وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت أو يشير بحاجبه وجبينه فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحاً وقال صلى الله عليه وسلم من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة وقال أيضاً " من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار وقد ورد في نصرة المسلم في الغيبة وفي فضل ذلك أخبار كثيرة أوردناها في كتاب آداب الصحبة وحقوق المسلمين فلا نطول بإعادتها.
اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطرد في حق العامة وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة. أما الثمانية فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذكر مساوية فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع وقد يمتنع الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة. الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معه في ذكر العيوب والمساوي. الثالث: أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت. الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله. الخامس: إرادة التصنع والمباهاة وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك. السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له وهذا هو عين الحسد وهو غير الغضب والحقد فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق. السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب. الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به. وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شباب الشيطان بها الشر. الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين فيقول ما أعجب ما رأيت من فلا! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشطيان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلا كيف يحب جاريته وهي قبيحة وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل. الثاني: الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصيره به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً وكذا تعجبه ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه. الثالث: الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يظهره على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ بل المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم - كما سيأتي ذكره - روي عن عامر بن وائلة: أن رجلاً مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم فردوا عليه السلام فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت والله لننبئنه ثم قالوا: يا فلان لرجل منهم - قم فأدركه وأخبره بما قال فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له ما قال وسأله أن يدعو له فدعاه وسأله فقال: قد قلت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم " لم تبغضه " فقال: أنا جاره وأنا به خابرن والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها فسأله فقال لا فقال: واللهما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً فسأله عنه فقال: لا فقال: والله ما رأيته يعطي سائلاً ولا مسكيناً قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها فسأله فقال: لا فقال صلى الله عليه وسلم للرجل " قم فلعله خير منك. اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل وإنما علاج كل علة بمضادة سببها فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على وجهين: أحدهما على الجملة والآخر على التفصيل: أما على الجملة: فهو أن يعلم تعرض لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرض فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار " وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب. قال صلى الله عليه وسلم " ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد وروي أن رجلاً قال للحسن: بلغني أنك تغتابني فقال: ما بلغ من قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. فهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه وهذا إن كان عيباً يتعلق بفعله واختياره وإن كان أمراً خلقياً فالذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قال رجل لحكيم: يا قبيح الوجه قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه. وإذا لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب وينفعه أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبه غيره له فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه. فهذه معالجات جملية. أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب. أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال صلى الله عليه وسلم " إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله وقال صلى الله عليه وسلم " من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه وقال صلى الله عليه وسلم " من كظم غظياً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين: يا ابن وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلب سخطه في رضا المخلوقين فكيف ترضى لنفسك أن توقر عيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلا أن يكون غضبك لله تعالى وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة. وأما تنزيه النف بنسبة الغير إلى الخيانة حيث يستغنى عن ذكر الغير فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقيناً ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا! فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك بالآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ويحصل لك ذم الله تعالى نقداً وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان. وأما عذرك كقولك إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته لسفه عقلك. ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردى نفسها من قلة الجبل فهي أيضاً تردى نفسها ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر وقالت: العنز أكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك أنا أفعل لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك.
وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوقين وهما ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً. وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت في الدنيا معذباً بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسراً نفسك في الدنيا فصرت أيضاً خاسراً في الآخرة لتجمع بين النكالين فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك. فإذا أنت صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك وتنفعه إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل إليك سيئاته ولا تنفعك وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك كما قيل: وإذا أراد الله نشر فضيله طويت أتاح لها لسان حسود وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك! ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه عليك وتسلطه على الانتقام منك. وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن ولكن حسدك إبليس فأضلك واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك فيكون جبر الإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحومماً وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجد الغيبة وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لمقت الله عز وجل بالغيبة. وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة فتعجب من نفسك أنت كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك أو بدنياه وأنت مع ذلك لا تأمن من عقوبة الدنيا! وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك. فإذن علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة.
|